أَيْضًا، وَالْبَلَاءُ الِاخْتِبَارُ - يَكُونُ فِي النِّعَمِ وَالنِّقَمِ، وَالْخَيْرِ وَالشَّرِّ - يُظْهِرُ اسْتِعْدَادَ النَّاسِ لِكُلٍّ مِنْهُمَا كَمَا تَرَاهُ قَرِيبًا فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ (٧) فَلَيْسَ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ مِمَّا وَعَدَ اللهُ بِهِ رُسُلَهُ وَبَلَّغُوهُ أَقْوَامَهُمْ وَصَدَّقَهُ الْوَاقِعُ، فَكَانَتِ الْعَاقِبَةُ لِلْمُؤْمِنِينَ بِهِمْ فِي خِلَافَةِ الْأَرْضِ وَمِلْكِهَا وَنَعِيمِهَا مَا ثَبَتُوا عَلَى ذَلِكَ، وَمِنْهُ هَذِهِ الْبِشَارَةُ، وَيُقَابِلُهَا قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي الْإِنْذَارِ: (وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ) أَيْ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا مُعْرِضِينَ عَمَّا دَعَوْتُكُمْ إِلَيْهِ مِنْ عِبَادَةِ اللهِ - تَعَالَى - وَعَدَمِ عِبَادَةِ غَيْرِهِ، وَمِنَ الِاسْتِغْفَارِ وَالتَّوْبَةِ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ، فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٌ هَوْلُهُ، شَدِيدٌ بَأْسُهُ، وَهُوَ أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ أَقْوَامَ الرُّسُلِ الَّذِينَ عَانَدُوهُمْ وَأَصَرُّوا عَلَى تَكْذِيبِهِمْ وَعِصْيَانِهِمْ، أَوْ مَا دُونَهُ مِنْ عَذَابِ الْمُصِرِّينَ، فِي إِثْرِ نَصْرِ الرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَهَذِهِ بَرَاعَةُ اسْتِهْلَالٍ لِلْقِصَصِ الْمُفَصَّلَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْيَوْمِ الْكَبِيرِ يَوْمُ الْقِيَامَةِ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ الْجَزَاءُ الْأَكْبَرُ، وَهُوَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ فِي الْآيَةِ التَّالِيَةِ:
(إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ) أَيْ إِلَيْهِ - تَعَالَى - رُجُوعُكُمْ بَعْدَ مَوْتِكُمْ جَمِيعًا أُمَمًا وَأَفْرَادًا لَا يَتَخَلَّفُ أَحَدٌ مِنْكُمْ فَتَلْقَوْنَ جَزَاءَكُمْ تَامًّا (وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) وَمِنْهُ بَعْثُكُمْ وَحَشْرُكُمْ وَجَزَاؤُكُمْ.
قَدَّمَ وَصْفَ الرَّسُولِ بِالنَّذِيرِ عَلَى وَصْفِهِ بِالْبَشِيرِ، ثُمَّ قَدَّمَ بِشَارَةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَخَّرَ إِنْذَارَ الْكَافِرِينَ الْمُصِرِّينَ تَأْلِيفًا لَهُمْ ; لِأَنَّ تَوَالِيَ الْإِنْذَارِ مُنَفِّرٌ مِنَ الِاسْتِمَاعِ، مُغْرٍ بِالتَّوَلِّي وَالْإِعْرَاضِ، عَلَى أَنَّ هَذَا التَّأْلِيفَ لَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِمْ كَمَا تَرَى فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -:
(أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ)
هَذَا بَيَانٌ مُسْتَأْنَفٌ لِحَالِ الْمُشْرِكِينَ وَصِفَتِهِمْ عِنْدَ تَبْلِيغِهِمُ الدَّعْوَةَ وَإِقَامَةَ الْحُجَّةِ، افْتُتِحَتْ بِأَدَاةِ التَّنْبِيهِ لِيَتَأَمَّلَهَا السَّامِعُ وَيَتَصَوَّرَهَا فِي صِفَتِهَا الْغَرِيبَةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَعْرَاضِ الْحَيْرَةِ وَالْعَجْزِ وَمُنْتَهَى الْجَهْلِ، يُقَالُ: ((ثَنَى الثَّوْبَ إِذَا عَطَفَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَطَوَاهُ، وَأَثْنَاءُ الثَّوْبِ أَطْوَاؤُهُ وَمَطَاوِيهِ، وَثَنَاهُ عَنْهُ لَوَاهُ وَحَوَّلَهُ، وَثَنَاهُ عَلَيْهِ أَطْبَقَهُ وَطَوَاهُ لِيُخْفِيَهُ فِيهِ، وَثَنَى عِنَانَهُ عَنِّي أَيْ تَحَوَّلَ وَأَعْرَضَ، وَثَنَى عِطْفَهُ أَيْ أَعْرَضَ بِجَانِبِهِ تَكَبُّرًا، وَمِنْهُ فِي الْمُجَادِلِ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ: ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ ٢٢: ٩ وَالِاسْتِخْفَاءُ مُحَاوَلَةُ الْخَفَاءِ، وَمِنْهُ:
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute