للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

بِمُضْطَرٍّ، وَيَذْهَبُ ذَلِكَ بِشَهْوَتِهِ إِلَى مَا وَرَاءَ حَدِّ الضَّرُورَةِ، فَعُلِمَ مِنْ قَوْلِهِ: (غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ) كَيْفَ تُقَدَّرُ الضَّرُورَةُ بِقَدْرِهَا، وَالْأَحْكَامُ عَامَّةٌ يُخَاطَبُ بِهَا كُلُّ مُكَلَّفٍ لَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ أَحَدٍ إِلَّا بِنَصٍّ صَرِيحٍ مِنَ الشَّارِعِ، وَيَذْكُرُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فِي هَذَا الْمَقَامِ مَسَائِلَ خِلَافِيَّةً فِي الْمَيْتَةِ كَحِلِّ الِانْتِفَاعِ بِجِلْدِهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَيْسَ يُؤْكَلُ، وَقَدْ قُلْنَا: إِنَّنَا لَا نَتَعَرَّضُ فِي بَيَانِ الْقُرْآنِ إِلَى الْمَسَائِلِ الْخِلَافِيَّةِ الَّتِي لَا تَدُلُّ عَلَيْهَا عِبَارَتُهُ، إِذْ يَجِبُ أَنْ يَبْقَى دَائِمًا فَوْقَ كُلِّ خِلَافٍ.

هَذَا مُلَخَّصُ مَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي الدَّرْسِ، وَاقْتَصَرْتُ عَلَيْهِ فِي الطَّبْعَةِ الْأُولَى وَقَرَأَهُ هُوَ فِيهَا، وَأَقُولُ الْآنَ: إِنَّهُ رَحِمَهُ اللهُ كَانَتْ خُطَّتُهُ الْغَالِبَةُ فِيهِ تَرْكَ ذِكْرِ الْمَسَائِلِ الْخِلَافِيَّةِ الَّتِي لَا يَدُلُّ عَلَيْهَا الْقُرْآنُ، وَهَذَا غَيْرُ الْخِلَافِ فِي مَدْلُولِ عِبَارَاتِهِ كَمَا هُنَا، وَرُبَّمَا يَكُونُ ذِكْرُ الْخِلَافِ وَسِيلَةً إِلَى بَيَانِ كَوْنِهِ فَوْقَ كُلِّ خِلَافٍ.

وَقَدْ زَادَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ - تَبَعًا لِفُقَهَائِهِمْ - مُحَرَّمَاتٍ أُخْرَى اسْتَدَلُّوا

عَلَيْهَا بِأَحَادِيثَ آحَادِيَّةٍ فِي دَلَالَتِهَا نَظَرٌ، وَبِعُمُومِ تَحْرِيمِ الْخَبَائِثِ وَهِيَ مُعَارَضَةٌ بِمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْحَصْرِ، وَقَدْ حَقَّقْتُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي تَفْسِيرِ (قُلْ لَا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ) (٦: ١٤٥) إِلَخْ. وَفَنَّدْتُ مَا قِيلَ فِي تَأْوِيلِهَا بِمَا ظَهَرَ بِهِ أَنَّ الْقُرْآنَ فَوْقَ كُلِّ خِلَافٍ.

وَمِنْ مَبَاحِثِ الْبَلَاغَةِ فِي الْآيَةِ أَنَّ ذِكْرَ (غَفُورٌ) لَهُ فِيهَا نُكْتَةٌ دَقِيقَةٌ لَا تَظْهَرُ إِلَّا لِصَاحِبِ الذَّوْقِ الصَّحِيحِ فِي اللُّغَةِ، فَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ ذِكْرَ وَصْفِ الرَّحِيمِ يُنْبِئُ بِأَنَّ هَذَا التَّشْرِيعَ وَالتَّخْفِيفَ بِالرُّخْصَةِ مِنْ آثَارِ الرَّحْمَةِ الْإِلَهِيَّةِ، وَأَمَّا الْغَفُورُ فَإِنَّمَا يُنَاسِبُ أَنْ يُذْكَرَ فِي مَقَامِ الْعَفْوِ عَنِ الزَّلَّاتِ وَالتَّوْبَةِ عَنِ السَّيِّئَاتِ. وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا أَنَّ مَا ذُكِرَ فِي تَحْدِيدِ الِاضْطِرَارِ دَقِيقٌ جِدًّا، وَمَرْجِعُهُ إِلَى اجْتِهَادِ الْمُضْطَرِّ، وَيَصْعُبُ عَلَى مَنْ خَارَتْ قُوَاهُ مِنَ الْجُوعِ أَنْ يَعْرِفَ الْقَدْرَ الَّذِي يُمْسِكُ الرَّمَقَ وَيَقِي مِنَ الْهَلَاكِ بِالتَّدْقِيقِ وَأَنْ يَقِفَ عِنْدَهُ، وَالصَّادِقُ الْإِيمَانِ يَخْشَى أَنْ يَقَعَ فِي وَصْفِ الْبَاغِي وَالْعَادِي بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، فَاللهُ تَعَالَى يُبَشِّرُهُ بِأَنَّ الْخَطَأَ الْمُتَوَقَّعَ فِي الِاجْتِهَادِ فِي ذَلِكَ مَغْفُورٌ لَهُ مَا لَمْ يَتَعَمَّدْ تَجَاوُزَ الْحُدُودِ. وَاللهُ أَعْلَمُ.

<<  <  ج: ص:  >  >>