للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ثُمَّ إِنَّكَ تَجِدُ لِكُلِّ لَوْنٍ مِنْ هَذِهِ الْأَلْوَانِ مِنَ التَّعْبِيرِ نَغَمًا خَاصًّا بِهِ فِي التَّرْتِيلِ، وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا نَوْعًا جَدِيدًا مِنَ التَّأْثِيرِ، فَاسْتَمِعْ لِمُرَتِّلِ قِصَّةِ مُوسَى فِي سُورَةِ طه سَاعَةً (زَمَانِيَّةً لَا فَلَكِيَّةً) وَفِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ سَاعَةً ثَانِيَةً، وَفِي سُورَةِ الْقَصَصِ بَعْدَهَا وَهِيَ الثَّالِثَةُ الْأُخْرَى، وَتَأَمَّلْ مَا تَجِدُ مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَهُنَّ فِي سَمْعِكَ، مُتَدَبِّرًا مَا تَشْعُرُ بِهِ مِنَ الْخُشُوعِ وَالْعِبْرَةِ فِي قَلْبِكَ، وَالْقِصَّةُ وَاحِدَةٌ، ثُمَّ جَرِّبْ هَذِهِ الْمُقَارَنَةَ فِي الْقِصَصِ الْمُتَعَدِّدَةِ مِنَ السُّوَرِ الْمُخْتَلِفَةِ فِي النَّظْمِ وَالْأُسْلُوبِ، كَهُودٍ وَالنَّمْلِ وَمَرْيَمَ وَالْأَنْبِيَاءِ وَالصَّافَّاتِ وَ ((ص)) وَالْقَمَرِ، تَجِدُ الْعَجَبَ الْعُجَابَ، وَلَا تَنْسَ أَنَّهَا جَاءَتْ عَلَى لِسَانِ رَجُلٍ لَمْ يَكُنْ مِنْ رِجَالِ الْبَيَانِ فِي يَوْمٍ مِنَ الْأَيَّامِ.

إِذَا فَطِنْتَ لِمَا ذُكِرَ كُلِّهِ، بَدَا لَكَ أَنَّ عَجْزَ الْبَشَرِ عَنْ مُعَارَضَةِ هَذِهِ الْقِصَصِ فِي جُمْلَةِ سُوَرِهَا، بِفَصَاحَتِهَا وَبَلَاغَتِهَا فِي كُلِّ أُسْلُوبٍ مِنْ أَسَالِيبِهَا، وَكُلِّ نَظْمٍ مِنْ

أَنَاظِيمِهَا، لَا يَتَحَقَّقُ فِي سُورَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ ثِنْتَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ مِنْهَا، وَهَأَنَذَا قَدْ ذَكَرْتُ لَكَ عَشْرًا مِنْهَا مُخْتَلِفَاتٍ مُتَّفِقَاتٍ مُتَشَابِهَاتٍ غَيْرَ مُشْتَبِهَاتٍ، وَلَكِنْ حِكْمَةُ الْعَشْرِ إِنَّمَا تَظْهَرُ عَلَى أَكْمَلِهَا فِي الْإِعْجَازِ الْمَعْنَوِيِّ، فَأَلْقِ السَّمْعَ إِلَى مَا أُلْقِيهِ إِلَيْكَ مِنْهَا.

مَزَايَا قِصَصِ الْقُرْآنِ فِي إِعْجَازِهَا الْعِلْمِيِّ:

إِنَّ وَرَاءَ هَذِهِ الْأَلْوَانِ وَالْأَشْكَالِ مِنَ الْإِعْجَازِ الصُّورِيِّ، لَأَشِعَّةٌ مِنْ ضِيَاءِ الْعِلْمِ وَالْهُدَى وَالْإِعْجَازِ الْمَعْنَوِيِّ، هِيَ أَظْهَرُ وَأَجْلَى، وَأَدَقُّ وَأَخْفَى، وَأَجَلُّ وَأَعْلَى، وَمَجِيئُهَا عَلَى لِسَانِ كَهْلٍ أُمِّيٍّ لَمْ يَكُنْ مُنْشِئًا وَلَا رَاوِيَةً وَلَا حَافِظًا، أَدَلُّ عَلَى كَوْنِهَا مِنْ عِنْدِ اللهِ - تَعَالَى -، فَتَأَمَّلْ مَا أَذْكُرُ بِهِ مِنْ مَزَايَاهَا الدِّينِيَّةِ وَالْعِلْمِيَّةِ وَغَيْرِهَا الْمُتَشَعِّبَةِ، مِنْهَا:

(١) بَيَانُ أُصُولِ دِينِ اللهِ الْعَامَّةِ الْمُشْتَرِكَةِ بَيْنَ جَمِيعِ أَنْبِيَائِهِ الْمُرْسَلِينَ، مِنَ الْإِيمَانِ بِوُجُودِهِ وَتَنْزِيهِهِ وَتَوْحِيدِهِ وَعِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ، وَعَدْلِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِهِ، وَالْإِيمَانِ بِالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ، وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ وَسَائِرِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الْفَوَاحِشِ وَالْمُنْكَرَاتِ الْعَامَّةِ.

(٢) بَيَانُ أَنَّ وَظِيفَةَ الرُّسُلِ تَبْلِيغُ وَحْيِ اللهِ - تَعَالَى - لِعِبَادِهِ، وَأَنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَ فِيمَا وَرَاءَ التَّبْلِيغِ نَفْعًا لِلنَّاسِ - لَا دِينِيًّا كَالْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى، وَلَا دُنْيَوِيًّا كَالرِّزْقِ وَالصِّحَّةِ، وَلَا كَشْفَ ضُرٍّ عَنْهُمْ كَذَلِكَ - فَقَدْ كَانَ أَبُو إِبْرَاهِيمَ وَابْنُ نُوحٍ وَامْرَأَتُهُ وَامْرَأَةُ لُوطٍ مِنَ الْكَافِرِينَ.

(٣) شُبْهَةُ الْأَقْوَامِ عَلَى رُسُلِهِمْ بِأَنَّهُمْ بَشَرٌ، وَأَنَّ آيَاتِهِمْ سِحْرٌ، وَاقْتِرَاحُهُمْ عَلَيْهِمْ نُزُولَ الْمَلَائِكَةِ وَالْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةِ الْحِسِّيَّةِ، وَرَدُّهُمْ بِأَنَّ آيَاتِهِمْ مِنْ فِعْلِ اللهِ - تَعَالَى - لَا مِنْ كَسْبِهِمْ بِقُدْرَتِهِمْ.

(٤) بَيَانُهُمْ لِأَقْوَامِهِمْ أَنَّ هِدَايَةَ الدِّينِ سَبَبٌ لِزِيَادَةِ النِّعَمِ فِي الدُّنْيَا وَحِفْظِهَا، كَمَا أَنَّهَا هِيَ الَّتِي تُنَالُ بِهَا سَعَادَةُ الْآخِرَةِ، وَأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مِنْ كَسْبِهِمُ الِاخْتِيَارِيِّ.

<<  <  ج: ص:  >  >>