للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

((وَرَجَّحَ الطِّيبِيُّ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ السَّكَّاكِيُّ، زَاعِمًا أَنَّ مَعْنَى الْغَيْضِ حِينَئِذٍ مَا قَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ وَهُوَ عِنْدَهُ مُخَالِفٌ لِلْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، فَقَالَ: إِنَّ إِضَافَةَ الْمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ لَمَّا كَانَتْ تَرْشِيحًا لِلِاسْتِعَارَةِ تَشْبِيهًا لِاتِّصَالِهِ بِهَا بِاتِّصَالِ الْمِلْكِ بِالْمَالِكِ، وَلِذَا جِيءَ بِضَمِيرِ الْخِطَابِ، اقْتَضَتْ إِخْرَاجَ سَائِرِ الْمِيَاهِ سِوَى الَّذِي بِسَبَبِهِ صَارَتِ الْأَرْضُ مُهَيَّأَةً لِلْخِطَابِ بِمَنْزِلَةِ الْمَأْمُورِ الْمُطِيعِ، وَهُوَ الْمَعْهُودُ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: (وَفَارَ التَّنُّورُ) (٤٠) وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ يَحْصُلُ التَّوَغُّلُ فِي تَنَاسِي التَّشْبِيهِ وَالتَّرْشِيحِ، وَلَوْ أُجْرِيَتِ الْإِضَافَةُ عَلَى غَيْرِ هَذَا تَكُونُ كَالتَّجْرِيدِ، وَكَمْ بَيْنَهُمَا؟

((هَذَا وَلَوْ حُمِلَ عَلَى الْعُمُومِ لَاسْتَلْزَمَ تَعْمِيمَ ابْتِلَاعِ الْمِيَاهِ بِأَسْرِهَا لِوُرُودِ الْأَمْرِ مِنْ مَقَامِ الْعَظَمَةِ كَمَا عَلِمْتَ مِنْ كَلَامِ السَّكَّاكِيِّ وَلَيْسَ بِذَاكَ، وَتَعَقَّبَهُ فِي الْكَشْفِ بِأَنَّهُ دَعْوَى بِلَا دَلِيلٍ وَرَدُّ يَمِينٍ؟ إِذْ لَا مَعْهُودَ، وَالظَّاهِرُ مَا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مِنَ الْمَاءِ وَلَا يُنَافِي التَّرْشِيحَ وَإِضَافَةَ الْمَالِكِيَّةِ. ثُمَّ الظَّاهِرُ مِنْ تَنْزِيلِ الْمَاءِ مَنْزِلَةَ الْغِذَاءِ أَنْ تُجْعَلَ الْإِضَافَةُ مِنْ بَابِ إِضَافَةِ الْغِذَاءِ إِلَى الْمُغْتَذِي فِي النَّفْعِ وَالتَّقْوِيَةِ وَصَيْرُورَتِهِ جُزْءًا مِنْهُ، وَلَا نَظَرَ فِيهِ إِلَى كَوْنِهِ مَمْلُوكًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ، وَأَمَّا التَّعْمِيمُ فَمَطْلُوبٌ وَحَاصِلٌ عَلَى التَّفْسِيرَيْنِ لِانْحِصَارِ

الْمَاءِ فِي الْأَرْضِيِّ وَالسَّمَائِيِّ وَقَدْ قُلْتُمْ بِنُضُوبِهِمَا مِنْ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ ابْلَعِي فَبَلَعَتْ؟ وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - وَغِيضَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَا عِنْدَنَا مِنَ الْمَاءِ غَيْرُ مَاءِ الطُّوفَانِ.

((هَذَا وَالْمُطَابِقُ تَفْسِيرَ الزَّمَخْشَرِيِّ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ جَلَّ وَعَلَا: فَالْتَقَى الْمَاءُ ٥٤: ١٢ أَيِ الْأَرْضِيُّ وَالسَّمَائِيُّ، وَهَاهُنَا تَقَدَّمَ الْمَاءَانِ فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: (مَاءَكِ) (وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي) لِأَنَّ تَقْدِيرَهُ: عَنْ إِرْسَالِ الْمَاءِ عَلَى زَعْمِهِمْ، فَإِذَا قِيلَ: وَغِيضَ الْمَاءُ رَجَعَ إِلَيْهِمَا لَا مَحَالَةَ لِتَقَدُّمِهِمَا. ثُمَّ إِذَا جُعِلَ مِنْ تَوَابِعِ أَقْلِعِي خَاصَّةً لَمْ يَحْسُنْ عَطْفُهُ عَلَى أَصْلِ الْقِصَّةِ، أَعْنِي: (وَقِيلَ يَاأَرْضُ ابْلَعِي) كَيْفَ وَفِي إِيثَارِ هَذَا التَّفْسِيرِ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّهُ زَالَ كَوْنُهُ طُوفَانًا لِأَنَّ نُقْصَانَ الْمَاءِ غَيْرُ الْإِذْهَابِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَإِلَى أَنَّ الْأَجْزَاءَ الْبَاطِنَةَ مِنَ الْأَرْضِ لَمْ تَبْقَ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ مِنْ قُوَّةِ الْإِنْبَاعِ وَرَجَعَتْ إِلَى الِاعْتِدَالِ الْمَطْلُوبِ، وَلَيْسَ فِي الِاخْتِصَاصِ بِالنُّضُوبِ هَذَا الْمَعْنَى أَلْبَتَّةَ اهـ.

((وَزَعَمَ الطَّبَرَسِيُّ أَنَّ أَئِمَّةَ الْبَيْتِ - رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - عَلَى أَنَّ الْمَاءَ الْمُضَافَ هُوَ مَا نَبَعَ وَفَارَ، وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي ابْتُلِعَ وَغَاضَ لَا غَيْرَ، وَأَنَّ مَاءَ السَّمَاءِ صَارَ بِحَارًا وَأَنْهَارًا.

((وَأَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ الْكَلْبِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا يُؤَيِّدُهُ، وَهَذَا مُخَالِفٌ لِمَا يَقْتَضِيهِ كَلَامُ السَّكَّاكِيِّ مُخَالَفَةً ظَاهِرَةً، وَفِي الْقَلْبِ مِنْ صِحَّتِهِ مَا فِيهِ.

((ثُمَّ إِنَّهُ - تَعَالَى - أَتْبَعَ - وَغِيضَ الْمَاءُ - مَا هُوَ الْمَقْصُودُ الْأَصْلِيُّ مِنَ الْقِصَّةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ جَلَّتْ عَظَمَتُهُ: (وَقُضِيَ الْأَمْرُ) ثُمَّ أَتْبَعَ ذِكْرَ الْمَقْصُودِ حَدِيثَ السَّفِينَةِ لِتَأَخُّرِهِ عَنْهُ فِي الْوُجُودِ، ثُمَّ خُتِمَتِ الْقِصَّةُ بِالتَّعْرِيضِ الَّذِي عَلِمْتَهُ.

<<  <  ج: ص:  >  >>