للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

أَيَّامًا مَعْدُودَةً لَا يَكْفِي لِحُدُوثِ مَا ذُكِرَ فِيهَا، وَقَدْ قُلْنَا فِي الْعِلَاوَةِ الثَّانِيَةِ: إِنَّ هَذِهِ الْمَسَائِلَ التَّارِيخِيَّةَ لَيْسَتْ مِنْ مَقَاصِدِ الْقُرْآنِ، وَلِذَلِكَ لَمْ

يُبَيِّنْهَا بِنَصٍّ قَطْعِيٍّ. فَنَحْنُ نَقُولُ بِمَا تَقَدَّمَ إِنَّهُ ظَاهِرُ النُّصُوصِ، وَلَا نَتَّخِذُهُ عَقِيدَةً دِينِيَّةً قَطْعِيَّةً، فَإِنْ أَثْبَتَ عِلْمُ الْجِيُولُوجِيَّةِ خِلَافَهُ لَا يَضُرُّنَا ; لِأَنَّهُ لَا يَنْقُضُ نَصًّا قَطْعِيًّا عِنْدَنَا.

الْعِلَاوَةُ الرَّابِعَةُ:

(فِي غَضَبِ اللهِ عَلَى عِبَادِهِ وَعِقَابِهِمْ بِبَعْضِ ظُلْمِهِمْ وَفُسُوقِهِمْ فِي الدُّنْيَا بِمُنَاسَبَةِ الْقِصَّةِ) بَيَّنَّا أَنَّ طُوفَانَ نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ عَذَابًا عَاقَبَ اللهُ بِهِ قَوْمَهُ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِجْرَامِهِمْ، وَأَنَّ رِوَايَةَ سِفْرِ التَّكْوِينِ مُوَافِقَةٌ لِلْقُرْآنِ فِي هَذَا، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا رُوِيَ عَنِ الْأُمَمِ الْقَدِيمَةِ مِنْ أَخْبَارِ الطُّوفَانِ الْعَامِّ أَوِ الْخَاصِّ قَدْ جَاءَ فِيهَا هَذَا الْمَعْنَى، فَهُوَ مُتَوَاتِرٌ عَنْ أَكْثَرِ الْأُمَمِ تَوَاتُرًا مَعْنَوِيًّا.

وَجَاءَ فِي الْقُرْآنِ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - عَاقَبَ غَيْرَ قَوْمِ نُوحٍ مِنْ أَقْوَامِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ بِعَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ لَمَّا عَمَّهُمْ وَشَمَلَهُمُ الشِّرْكُ وَالظُّلْمُ وَالْفَسَادُ، كَمَا قَالَ بَعْدَ ذِكْرِ أَشْهَرِهِمْ فِي التَّارِيخِ: (فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (٢٩: ٤٠) وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُ عِقَابِ هَؤُلَاءِ الْأَقْوَامِ بَعْدَ قِصَّةِ نُوحٍ هَذِهِ.

وَقَدْ بَيَّنَّا فِي هَذَا التَّفْسِيرِ أَنَّ عَذَابَ الِاسْتِئْصَالِ إِنَّمَا وَقَعَ عَلَى الْأُمَمِ الَّتِي عَمَّهَا الْفَسَادُ وَأَنْذَرَهَا الرُّسُلُ وُقُوعَهُ فَلَمْ يَرْجِعُوا، وَأَنَّهُ مَا وَقَعَ عَلَى قَوْمٍ وَفِيهِمْ مُؤْمِنٌ صَالِحٌ، وَإِنَّمَا كَانَ اللهُ - تَعَالَى - يُخْرِجُ مِنْهُمْ رَسُولَهُ وَمَنْ آمَنَ مَعَهُ وَيُهْلِكُ الْبَاقِينَ كَمَا قَالَ: وَمَا كُنَّا مُعَذَّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (١٧: ١٥) وَقَالَ: وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ [٢٨: ٥٨ و٥٩] وَلَمَّا كَانَ فِي قَوْمِ فِرْعَوْنَ مُؤْمِنُونَ لَا يَعْلَمُ عَدَدَهُمْ إِلَّا اللهُ - تَعَالَى - لَمْ يُغْرِقْهُمْ كُلَّهُمْ، وَإِنَّمَا أَغْرَقَ مَنْ خَرَجُوا مَعَهُ لِإِعَادَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَى الِاسْتِعْبَادِ وَالظُّلْمِ.

وَبَيَّنَّا أَيْضًا أَنَّ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّتِي وُجِّهَتْ إِلَيْهَا دَعْوَتُهُ هُمْ جَمِيعُ الْبَشَرِ.

وَأَنَّ اللهَ - تَعَالَى - أَرْسَلَهُ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، وَلِهَذَا لَا يُهْلِكُهَا بِعَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ لِأَنَّهَا لَا تُجْمِعُ عَلَى الْكُفْرِ وَالْفَسَادِ

فِي الْأَرْضِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ هَلَاكُهَا الْعَامُّ بِقِيَامِ السَّاعَةِ الَّتِي يُهْلَكُ بِهَا الْبَشَرُ كُلُّهُمْ، وَهَذَا إِنَّمَا يَكُونُ إِذَا عَمَّهُمُ الْكُفْرُ كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ

<<  <  ج: ص:  >  >>