الْأَجْرَامَ الْمَأْهُولَةَ بِالسُّكَّانِ مِمَّا يُمْكِنُ أَنْ يَقْرُبَ مِنْهُمْ سُكَّانُ الْأَرْضِ وَمَا فِيهَا مِنَ الْحَيَوَانِ وَيَبْقَوْنَ أَحْيَاءً. وَقَدْ ثَبَتَ بِالْمُشَاهَدَةِ وَالِاخْتِبَارِ الْفِعْلِيِّ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ الَّتِي نَكْتُبُ هَذَا فِيهَا، أَنَّ الطَّيَّارَاتِ وَالْمَنَاطِيدَ الَّتِي
تُحَلِّقُ فِي الْجَوِّ تَصِلُ إِلَى حَيْثُ يَخِفُّ ضَغْطُ الْهَوَاءِ وَيَسْتَحِيلُ حَيَاةُ النَّاسِ فِيهَا، وَهُمْ يَصْنَعُونَ أَنْوَاعًا مِنْهَا يَضَعُونَ فِيهَا مِنْ أُوكْسِجِينِ الْهَوَاءِ مَا يَكْفِي اسْتِنْشَاقُهُ وَتَنَفُّسُهُ لِلْحَيَاةِ فِي طَبَقَاتِ الْجَوِّ الْعُلْيَا وَيَصْعَدُونَ فِيهَا، وَقَدْ أُشِيرَ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ إِلَى مَا يَكُونُ لِلتَّصْعِيدِ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مِنَ التَّأْثِيرِ فِي ضِيقِ الصَّدْرِ مِنْ عُسْرِ التَّنَفُّسِ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ ٦: ١٢٥.
(فَإِنْ قِيلَ) : إِنَّ هَذَا الْفِعْلَ الْمَرْوِيَّ عَنْ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مِنَ الْمُمْكِنَاتِ الْعَقْلِيَّةِ وَكَانَ وُقُوعُهُ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُجْعَلَ تَصْدِيقُهُ مَوْقُوفًا عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ سُنَنِ الْكَائِنَاتِ: (قُلْتُ) : نَعَمْ، وَلَكِنَّ الشَّرْطَ الْأَوَّلَ لِقَبُولِ الرِّوَايَةِ فِي أَمْرٍ جَاءَ عَلَى غَيْرِ السُّنَنِ وَالنَّوَامِيسِ الَّتِي أَقَامَ اللهُ بِهَا نِظَامَ الْعَالَمِ مِنْ عُمْرَانٍ وَخَرَابٍ، أَنْ تَكُونَ الرِّوَايَةُ عَنْ وَحْيٍ إِلَهِيٍّ نُقِلَ بِالتَّوَاتُرِ عَنِ الْمَعْصُومِ أَوْ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ مُتَّصِلِ الْإِسْنَادِ لَا شُذُوذَ فِيهِ وَلَا عِلَّةَ عَلَى الْأَقَلِّ، وَلَمْ يُذْكَرْ فِي كِتَابِ اللهِ - تَعَالَى - وَلَمْ يَرِدْ فِيهِ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ إِلَى نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا تَظْهَرُ حِكْمَةُ اللهِ فِيهِ، وَإِنَّمَا رُوِيَ عَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ دُونَ الصَّحَابَةِ وَلَا شَكَّ أَنَّهُ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ، وَمِمَّا قَالُوهُ فِيهَا أَنَّ عَدَدَ أَهْلِهَا كَانَ أَرْبَعَةَ آلَافِ أَلْفٍ، وَبِلَادُ فِلَسْطِينَ كُلُّهَا لَا تَسَعُ هَذَا الْعَدَدَ فَأَيْنَ كَانَ هَؤُلَاءِ الْمَلَايِينُ يَسْكُنُونَ مِنْ تِلْكَ الْقُرَى الْأَرْبَعِ؟
وَهَذِهِ الْإِسْرَائِيلِيَّاتُ الْمُشَوَّهَةُ لِهَذِهِ الْقِصَّةِ كَغَيْرِهَا مِنْ قَصَصِ الْأَنْبِيَاءِ مُخَالِفَةٌ لِمَا عِنْدَ بَاثِّيهَا مِنْ زَنَادِقَةِ الْيَهُودِ فِي تَوْرَاتِهِمْ، وَمُلَخَّصُ مَا فِي الْفَصْلِ التَّاسِعِ مِنْ سِفْرِ التَّكْوِينِ الْخَاصِّ بِلُوطٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَقَوْمِهِ أَنَّ الْمَلَكَيْنِ اللَّذَيْنِ أَتَيَاهُ بِصُورَةِ رَجُلَيْنِ ضَرَبَا بِالْعَمَى جَمِيعَ قَوْمِهِ وَقَالَا لَهُ: أَصْهَارَكَ وَبَنِيكَ وَبَنَاتِكَ وَكُلَّ مَنْ لَكَ فِي الْمَدِينَةِ أَخْرِجْ مِنْ هَذَا الْمَكَانِ؛ لِأَنَّنَا مُهْلِكَانِ أَهْلَ هَذَا الْمَكَانِ ; إِذْ قَدْ عَظُمَ صُرَاخُهُمْ أَمَامَ الرَّبِّ فَأَرْسَلَنَا الرَّبُّ لِنُهْلِكَهُ) فَخَرَجَ لُوطٌ وَكَلَّمَ أَصْهَارَهُ الْآخِذِينَ بَنَاتَهُ وَقَالَ قُومُوا وَاخْرُجُوا مِنْ هَذَا الْمَكَانِ لِأَنَّ الرَّبَّ مُهْلِكُ الْمَدِينَةِ، فَكَانَ كَمَازِحٍ فِي أَعْيُنِ أَصْهَارِهِ، وَلَمَّا طَلَعَ الْفَجْرُ كَانَ الْمَلَاكَانِ يُعَجِّلَانِ لُوطًا قَائِلِينَ: قُمْ خُذِ امْرَأَتَكَ وَابْنَتَيْكَ الْمَوْجُودَتَيْنِ لِئَلَّا تَهْلَكُ بِإِثْمِ الْمَدِينَةِ، ثُمَّ أَخْرَجَاهُ وَدَفَعَاهُ إِلَى
مَدِينَةٍ اسْمُهَا صَوْغَرُ وَوَعَدَاهُ بِعَدَمِ إِهْلَاكِهَا وَمَعَهُ امْرَأَتُهُ وَبِنْتَاهُ، وَأَمَرَاهُ بِأَلَّا يَنْظُرَ وَرَاءَهُ (ثُمَّ قَالَ: وَإِذَا أَشْرَقَتِ الشَّمْسُ عَلَى الْأَرْضِ دَخَلَ لُوطٌ إِلَى صَوْغَرَ فَأَمْطَرَ الرَّبُّ عَلَى سَدُومَ وَعَمُّورَةَ كِبْرِيتًا وَنَارًا مِنْ عِنْدِ الرَّبِّ مِنَ السَّمَاءِ، وَقُلِبَتْ تِلْكَ الْمُدُنُ وَكُلُّ الدَّائِرَةِ وَجَمِيعُ سُكَّانِ الْمُدُنِ وَنَبَاتُ الْأَرْضِ، وَنَظَرَتِ امْرَأَتُهُ مِنْ وَرَائِهِ فَصَارَتْ عَمُودَ مِلْحٍ، وَبَكَّرَ إِبْرَاهِيمُ فِي الْغَدِ إِلَى
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute