وَالْإِخْلَافُ مِنَ الذُّنُوبِ الْهَادِمَةِ لِلنِّظَامِ، الْمُفْسِدَةِ لِلْعُمْرَانِ، الْمُفْنِيَةِ لِلْأُمَمِ. وَمَا فَقَدَتْ أُمَّةٌ الْوَفَاءَ الَّذِي هُوَ رُكْنُ الْأَمَانَةِ وَقِوَامُ الصِّدْقِ إِلَّا وَحَلَّ بِهَا الْعِقَابُ الْإِلَهِيُّ، وَلَا يُعَجِّلُ اللهُ الِانْتِقَامَ مِنَ الْأُمَمِ لِذَنْبٍ مِنَ الذُّنُوبِ يَفْشُو فِيهَا كَذَنْبِ الْإِخْلَالِ بِالْعَهْدِ وَالْإِخْلَافِ بِالْوَعْدِ،
وَانْظُرْ حَالَ أُمَّةٍ اسْتَهَانَتْ بِالْإِيفَاءِ بِالْعُهُودِ وَلَمْ تُبَالِ بِالْتِزَامِ الْعُقُودِ تَرَ كَيْفَ حَلَّ بِهَا عَذَابُ اللهِ تَعَالَى بِالْإِذْلَالِ، وَفَقْدِ الِاسْتِقْلَالِ، وَضَيَاعِ الثِّقَةِ بَيْنَهَا حَتَّى فِي الْأَهْلِ وَالْعِيَالِ، فَهُمْ يَعِيشُونَ عِيشَةَ الْأَفْرَادِ لَا عِيشَةَ الْأُمَمِ: صُوَرٌ مُتَحَرِّكَةٌ، وَوُحُوشٌ مُفْتَرِسَةٌ يَنْتَظِرُ كُلُّ وَاحِدٍ وَثْبَةَ الْآخَرِ عَلَيْهِ، إِذَا أَمْكَنَ لِيَدِهِ أَنْ تَصِلَ إِلَيْهِ، وَلِذَلِكَ يَضْطَرُّ كُلُّ وَاحِدٍ إِذَا عَاقَدَ أَيَّ إِنْسَانٍ مِنْ أُمَّتِهِ أَنْ يَسْتَوْثِقَ مِنْهُ بِكُلِّ مَا يَقْدِرُ، وَيَحْتَرِسَ مِنْ غَدْرِهِ بِكُلِّ مَا يُمْكِنُ، فَلَا تَعَاوُنَ وَلَا تَنَاصُرَ، وَلَا تَعَاضُدَ وَلَا تَآزُرَ، بَلِ اسْتَبْدَلُوا بِهَذِهِ الْمَزَايَا التَّحَاسُدَ وَالتَّبَاغُضَ، وَالتَّعَادِيَ وَالتَّعَارُضَ، بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ وَلَكِنَّهُمْ أَذِلَّاءُ لِلْعَبِيدِ (قَالَ) : وَقَدْ أَحْصَيْتُ فِي سَنَةٍ قَضَايَا التَّخَاصُمِ فِي مَحْكَمَةِ بَنْهَا فَأَلْفَيْتُ أَنَّ خَمْسًا وَسَبْعِينَ قَضِيَّةً فِي الْمِائَةِ مِنْهَا بَيْنَ الْأَقَارِبِ، وَالْبَاقِي بَيْنَ سَائِرِ النَّاسِ، وَلَوْ كَانَ فِي النَّاسِ وَفَاءٌ لَسَلِمُوا مِنْ كُلِّ هَذَا الْبَلَاءِ.
(وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ) قَالُوا: إِنَّ الْبَأْسَاءَ اسْمٌ مِنَ الْبُؤْسِ وَهُوَ الشِّدَّةُ وَالْفَقْرُ، وَالضَّرَّاءُ مَا يَضُرُّ الْإِنْسَانَ مِنْ نَحْوِ مَرَضٍ أَوْ جُرْحٍ، أَوْ فَقْدِ مَحْبُوبٍ مِنْ مَالٍ وَأَهْلٍ، وَفَسَّرُوا الْبَأْسَ بِاشْتِدَادِ الْحَرْبِ، وَالصَّبْرُ يُحْمَدُ فِي هَذِهِ الْمَوَاطِنِ وَفِي غَيْرِهَا، وَخَصَّ هَذِهِ الثَّلَاثَ بِالذِّكْرِ ; لِأَنَّ مَنْ صَبَرَ فِيهَا كَانَ فِي غَيْرِهَا أَصْبَرَ، لِمَا فِي احْتِمَالِهَا مِنَ الْمَشَقَّةِ عَلَى النَّفْسِ وَالِاضْطِرَابِ فِي الْقَلْبِ ; فَإِنَّ الْفَقْرَ إِذَا اشْتَدَّتْ وَطْأَتُهُ يَضِيقُ لَهُ الذَّرْعُ، وَيَكَادُ يُفْضِي إِلَى الْكُفْرِ، وَالضُّرُّ إِذَا بَرَّحَ بِالْبَدَنِ يُضْعِفُ الْأَخْلَاقَ حَتَّى لَا يَكَادَ الْمَرْءُ يَحْتَمِلُ مَا كَانَ يُسَرُّ بِهِ فِي حَالِ الصِّحَّةِ، فَمَا بَالُكَ بِالْمَرَضِ وَآلَامِهِ وَمَا يَطْرَأُ فِي أَثْنَائِهِ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي تَسُوءُ النَّفْسَ، وَأَمَّا حَالَةُ اشْتِدَادِ الْحَرْبِ فَهِيَ عَلَى مَا فِيهَا مِنَ الشِّدَّةِ وَالتَّعَرُّضِ لِلْهَلَكَةِ بِخَوْضِ غَمَرَاتِ الْمَنِيَّةِ يُطْلَبُ فِيهَا مِنَ الصَّبْرِ مَا لَا يُطْلَبُ فِي غَيْرِهَا ; لِأَنَّ الظَّفَرَ مَقْرُونٌ بِالصَّبْرِ، وَبِالظَّفَرِ حِفْظُ الْحَقِّ الَّذِي يُنَاضِلُ مَنْ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللهِ دُونَهُ وَيُدَافِعُ عَنْهُ، وَيُحَاوِلُ إِظْهَارَهُ وَيَبْغِي انْتِشَارَهُ، وَهَذَا هُوَ الْمَأْمُورُ مِنَ اللهِ تَعَالَى بِالصَّبْرِ حِينَ الْبَأْسِ، لَا الْمُحَارِبُ لِطَمَعِ الدُّنْيَا وَأَهْوَاءِ الْمُلُوكِ.
وَقَدْ وَرَدَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ أَنَّ الْفِرَارَ مِنَ الزَّحْفِ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ، وَعَبَّرَ عَنْهُ فِي بَعْضِهَا بِالْكُفْرِ، فَلَا غَرْوَ أَنْ يَجْعَلَ الصَّبْرَ فِي حِينِ الْبَأْسِ أَصْلًا مِنْ
أُصُولِ الْبِرِّ، وَقَدْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ بِإِرْشَادِ هَذِهِ النُّصُوصِ أَعْظَمَ أُمَّةٍ حَرْبِيَّةٍ فِي الْعَالَمِ فَمَا زَالَ اسْتِبْدَادُ الْحُكَّامِ يُفْسِدُ مِنْ بَأْسِهِمْ، وَتَرْكُ الِاهْتِدَاءِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ يَفُلُّ مِنْ غَرْبِهِمْ، حَتَّى سَبَقَتْهُمُ الْأُمَمُ كُلُّهَا فِي مَيَادِينِ الْكِفَاحِ، وَحَتَّى صِرْنَا نَسْمَعُ مِنْ أَمْثَالِهِمْ: فَرَّ لَعَنَهُ اللهُ، خَيْرُ مَنْ مَاتَ رَحِمَهُ اللهُ.
وَأَبْعَدُ النَّاسِ عِنْدَنَا عَنِ الصَّبْرِ وَأَدْنَاهُمْ مِنَ الْجَزَعِ وَالْهَلَعِ وَالْفَزَعِ الْمُشْتَغِلُونَ بِالْعُلُومِ الدِّينِيَّةِ،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute