للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فَلَمَّا ضَمِنَ رَبُّهُ لَهُ أَمْنَ ضَيَاعِ شَيْءٍ مِنْهُ بِعَدَمِ حِفْظِهِ عِنْدَ تَلَقِّيهِ، أَوْ نِسْيَانِهِ بَعْدَهُ، زَالَ خَوْفُهُ، وَتَرَكَ الِاسْتِعْجَالَ بِقِرَاءَتِهِ.

وَهَذِهِ السُّورَةُ الطَّوِيلَةُ نَزَلَتْ عَلَيْهِ دُفْعَةً وَاحِدَةً كَأَكْثَرِ السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ حَتَّى الطَّوَالِ مِنْهَا كَسُورَةِ الْأَنْعَامِ، فَلَمْ يَكُنْ يَدْرِي مِنْ هَذَا التَّرْتِيبِ وَالنَّسَقِ لَهَا وَلَا مِنْ مَوْضُوعِهَا شَيْئًا قَبْلَ وَحْيِهَا، وَلَا يُحِيطُ بِهِ إِلَّا أَنْ يُكْمِلَ لَهُ تَلَقِّيَهَا عَنِ الرُّوحِ الْأَمِينِ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - وَلَكِنَّ الْعَجَبَ أَنْ يَغْفَلَ عَنْهُ أَوْ يَجْهَلَهُ أَحَدٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، فُرْسَانُ الْبَلَاغَةِ الْفَنِّيَّةِ، وَالْآنَ قَدْ بَيَّنْتُهُ لِقَارِئِ هَذَا التَّفْسِيرِ لِيَفْطِنَ لِدَلَالَةِ السُّورَةِ بِنَظْمِهَا وَبَلَاغَتِهَا عَلَى إِعْجَازِ الْقُرْآنِ اللَّفْظِيِّ، وَبِمَا فِيهَا مِنَ التَّشْرِيعِ وَعِلْمِ الْغَيْبِ عَلَى إِعْجَازِهِ الْمَعْنَوِيِّ، وَبِالْإِعْجَازَيْنِ كِلَيْهِمَا عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرِسَالَتِهِ،

أَشْرَعُ فِي تَفْسِيرِ الْقِصَّةِ مُتَبَرِّئًا مِنْ حَوْلِي وَقُوَّتِي إِلَى حَوْلِ اللهِ وَقُوَّتِهِ، وَهِيَ: لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ أَيْ لَقَدْ كَانَ فِي قِصَّةِ يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ لِأَبِيهِ أَنْوَاعٌ مِنَ الدَّلَائِلِ عَلَى أَنْوَاعٍ مِنْ قُدْرَةِ اللهِ وَحِكْمَتِهِ، وَتَوْفِيقِ أَقْدَارِهِ وَلُطْفِهِ بِمَنِ اصْطَفَى مِنْ عِبَادِهِ، وَتَرْبِيَتِهِ لَهُمْ، وَحُسْنِ عِنَايَتِهِ بِهِمْ، لِلسَّائِلِينَ عَنْهَا، مِنَ الرَّاغِبِينَ فِي مَعْرِفَةِ الْحَقَائِقِ وَالِاعْتِبَارِ بِهَا، لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يَعْقِلُونَ الْآيَاتِ وَيَسْتَفِيدُونَ مِنْهَا، وَمَنْ فَاتَهُ الْعِلْمُ بِشَيْءٍ أَوْ بِحِكْمَتِهِ أَوْ بِوَجْهِ الْعِبْرَةِ فِيهِ سَأَلَ عَنْهُ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ بِهِ مِنْهُ، فَإِنَّ لِلظَّوَاهِرِ غَايَاتٍ لَا تُعْلَمُ حَقَائِقُهَا إِلَّا مِنْهَا، فَإِخْوَةُ يُوسُفَ لَوْ لَمْ يَحْسُدُوهُ لَمَا أَلْقَوْهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ، وَلَوْ لَمْ يُلْقُوهُ لَمَا وَصَلَ إِلَى عَزِيزِ مِصْرَ، وَلَوْ لَمْ يَعْتَقِدِ الْعَزِيزُ بِفِرَاسَتِهِ وَأَمَانَتِهِ وَصِدْقِهِ لَمَا أَمِنَهُ عَلَى بَيْتِهِ وَرِزْقِهِ وَأَهْلِهِ، وَلَوْ لَمْ تُرَاوِدْهُ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ عَنْ نَفْسِهِ وَيَسْتَعْصِمُ لِمَا ظَهَرَتْ نَزَاهَتُهُ وَعُرِفَ أَمْرُهَا، وَلَوْ لَمْ تَخِبْ فِي كَيْدِهَا وَكَيْدِ صَوَاحِبِهَا مِنَ النِّسْوَةِ لَمَا أُلْقِيَ فِي السِّجْنِ لِإِخْفَاءِ هَذَا الْأَمْرِ، وَلَوْ لَمْ يُسْجَنْ لَمَا عَرَفَهُ سَاقِي مَلِكِ مِصْرَ وَعَرَفَ بَرَاعَتَهُ وَصِدْقَهُ فِي تَعْبِيرِ الرُّؤْيَا، وَلَوْ لَمْ يَعْلَمِ السَّاقِي مِنْهُ هَذَا لَمَا عَرَفَهُ مَلِكُ مِصْرَ وَآمَنَ بِهِ وَلَهُ وَجَعَلَهُ عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ، وَلَوْ لَمْ يَتَبَوَّأْ هَذَا الْمَنْصِبَ لَمَا أَمْكَنَهُ أَنْ يُنْقِذَ أَبَوَيْهِ وَإِخْوَتَهُ وَأَهْلَهُمْ أَجْمَعِينَ مِنَ الْمَخْمَصَةِ، وَيَأْتِي بِهِمْ إِلَى مِصْرَ فَيُشَارِكُوهُ فِي رِيَاسَتِهِ وَمَجْدِهِ، بَلْ لَمَا تَمَّ قَوْلُ أَبِيهِ لَهُ: (وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ) ٦ فَمَا مِنْ حَلَقَةٍ مِنْ هَذِهِ السِّلْسِلَةِ إِلَّا وَكَانَ ظَاهِرُهَا مُحْرِقًا، وَبَاطِنُهَا مُشْرِقًا، وَبِدَايَتُهَا شَرًّا وَخُسْرًا، وَعَاقِبَتُهَا خَيْرًا وَفَوْزًا، وَصَدَقَ قَوْلُ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) ٧: ١٢٨.

فَهَذِهِ أَنْوَاعٌ مِنْ آيَاتِ اللهِ فِي الْقِصَّةِ لِلسَّائِلِينَ عَنْ وَقَائِعِهَا الْحِسِّيَّةِ الظَّاهِرَةِ، وَمَا هُوَ أَعْلَى مِنْهَا مِنْ عُلُومِهَا وَحِكَمِهَا الْبَاطِنَةِ، كَعِلْمِ يَعْقُوبَ بِتَأْوِيلِ رُؤْيَا يُوسُفَ وَعِلْمِهِ بِكَذِبِهِمْ بِدَعْوَى أَكْلِ الذِّئْبِ لَهُ، وَمِنْ شَهَادَةِ اللهِ بِالْعِلْمِ بِقَوْلِهِ: وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ ٦٨، الْآيَةَ، وَمِنْ شَمِّهِ لِرِيحِ يُوسُفَ مُنْذُ فَصَلَتِ الْعِيرُ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ قَاصِدَةً أَرْضَ كَنْعَانَ. وَمِنْ عِلْمِ يُوسُفَ بِتَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ، وَمِنْ رُؤْيَتِهِ لِبُرْهَانِ رَبِّهِ، وَمِنْ كَيْدِ اللهِ لَهُ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ بِشَرْعِ

<<  <  ج: ص:  >  >>