للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الَّذِي لَا يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَهُ مِنْ يَدِهِ، يَحْتَالُ أَنْ يَغْلِبَهُ عَلَيْهِ وَيَأْخُذَهُ مِنْهُ، وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنِ التَّحَيُّلِ لِمُوَاقَعَتِهِ إِيَّاهَا. انْتَهَى. وَلَوْ رَأَتْ مِنْهُ أَدْنَى مَيْلٍ إِلَيْهَا وَهِيَ تَخْلُو بِهِ فِي مَخَادِعِ بَيْتِهَا لَمَا احْتَاجَتْ إِلَى مُخَادَعَتِهِ بِالْمُرَاوَدَةِ، وَلَمَا خَابَتْ فِي التَّعْرِيضِ لَهُ بِالْمُغَازَلَةِ وَالْمُهَازَلَةِ، تَنَزَّلَتْ إِلَى الْمُكَاشَفَةِ وَالْمُصَارَحَةِ، إِذْ كَانَ كُلَّ مَا سَبَقَهُ مِنْهَا وَحْدَهَا وَلَمْ يُشَارِكْهَا فِيهِ، (وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ) أَيْ أَحْكَمَتْ إِغْلَاقَ بَابِ الْمَخْدَعِ الَّذِي كَانَا فِيهِ، وَبَابِ الْبَهْوِ الَّذِي يَكُونُ أَمَامَ الْحُجُرَاتِ وَالْغُرَفِ فِي بُيُوتِ الْكُبَرَاءِ، وَبَابِ الدَّارِ الْخَارِجِيِّ، وَقَدْ يَكُونُ فِي أَمْثَالِ هَذِهِ الْقُصُورِ أَبْوَابٌ أُخْرَى مُتَدَاخِلَةٌ (وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ) أَيْ هَلُمَّ أَقْبِلْ وَبَادِرْ، وَزِيَادَةٌ لَكَ بَيَانٌ لِلْمُخَاطَبِ، كَمَا يَقُولُونَ: هَلُمَّ لَكَ وَسَقْيًا لَكَ، وَاقْتَصَرَ عَلَى هَذَا فِي التَّنْزِيلِ، وَهُوَ مُنْتَهَى النَّزَاهَةِ فِي التَّعْبِيرِ، وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا زَادَتْهُ مِنَ الْإِغْرَاءِ وَالتَّهْيِيجِ الَّذِي تَقْتَضِيهِ الْحَالُ، وَنَقَلَ رُوَاةُ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ عَنْهَا وَكَذَا عَنْهُ مِنَ الْوَقَاحَةِ مَا يُعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّهُ كَذِبٌ، فَإِنَّ مِثْلَهُ لَا يُعْلَمُ إِلَّا مِنَ اللهِ - تَعَالَى - أَوْ بِالرِّوَايَةِ الصَّحِيحَةِ عَنْهَا أَوْ عَنْهُ، وَلَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَدَّعِيَ هَذَا أَحَدٌ كَمَا يَأْتِي قَرِيبًا. وَ (هَيْتَ) اسْمُ فِعْلٍ قُرِئَ بِفَتْحِ الْهَاءِ وَكَسْرِهَا مَعَ فَتْحِ التَّاءِ وَبِضَمِّهَا كَحَيْثُ، وَرُوِيَ أَنَّهَا لُغَةُ عَرَبِ حَوْرَانَ، وَكَانَ سَبَبُ اخْتِيَارِهَا أَنَّهَا أَخْصَرُ مَا يُؤَدِّي الْمُرَادَ بِأَكْمَلِ النَّزَاهَةِ اللَّائِقَةِ بِالذِّكْرِ الْحَكِيمِ، وَهُوَ مَالَمْ يَعْقِلْهُ أُولَئِكَ الرُّوَاةُ لِمَا يُخَالِفُهُ وَيُنَاقِضُهُ (قَالَ مَعَاذَ اللهِ) أَيْ أَعُوذُ بِاللهِ مَعَاذًا وَأَتَحَصَّنُ بِهِ فَهُوَ يُعِيذُنِي أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ الْفَاسِقِينَ، كَمَا قَالَ بَعْدَ أَنِ اسْتَعَانَتْ عَلَيْهِ بِكَيْدِ صَوَاحِبِهَا مِنَ النِّسْوَةِ: (وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ) ٣٣.

وَجُمْلَةُ (قَالَ مَعَاذَ اللهِ) إِلَخْ بَيَانٌ مُسْتَأْنَفٌ لِجَوَابِ يُوسُفَ مَبْنِيٌّ عَلَى سُؤَالٍ تَقْدِيرُهُ: وَمَاذَا قَالَ بَعْدَ تَسَفُّلِ الْمَرْأَةِ - وَهِيَ سَيِّدَتُهُ - إِلَى هَذِهِ الدِّرْكَةِ مِنَ التَّذَلُّلِ لَهُ؟ وَهُوَ كَمَا قَالَتْ

مَرْيَمُ ابْنَةُ عِمْرَانَ لِلْمَلِكِ الَّذِي تَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا: (إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا) ١٩: ١٨ وَعَلَّلَ هَذِهِ الِاسْتِعَاذَةَ بِقَوْلِهِ: (إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ) أَيْ إِنَّهُ - تَعَالَى - وَلِيُّ أَمْرِي كُلِّهِ، أَحْسَنَ مَقَامِي عِنْدَكُمْ وَسَخَّرَكُمْ لِي بِمَا وَفَّقَنِي لَهُ مِنَ الْأَمَانَةِ وَالصِّيَانَةِ، فَهُوَ يُعِيذُنِي وَيَعْصِمُنِي مِنْ عِصْيَانِهِ وَخِيَانَتِكُمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِرَبِّهِ مَالِكَهُ الْعَزِيزَ فِي الصُّورَةِ وَإِنْ كَانَ حُرًّا مَظْلُومًا فِي الْحَقِيقَةِ، كَمَا يُقَالُ: رَبُّ الدَّارِ، وَكَانَ مِنْ عُرْفِهِمْ إِطْلَاقُهُ عَلَى الْمُلُوكِ وَالْعُظَمَاءِ كَمَا يَأْتِي فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِسَاقِي الْمَلِكِ فِي السِّجْنِ (اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ) ٤٢ وَلَكِنَّ اللهَ عَاقَبَهُ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ حِينَئِذٍ رَبَّهُ، فَكَانَ نِسْيَانُهُ لَهُ سَبَبًا لِطُولِ مُكْثِهِ فِي السِّجْنِ كَمَا يَأْتِي، ثُمَّ إِنَّهُ قَالَ لِرَسُولِ الْمَلِكِ، إِذْ جَاءَهُ يَطْلُبُهُ لِأَجْلِهِ: (ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ) .

وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ - وَقَدْ جَرَى عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ - يَكُونُ الضَّمِيرُ فِي إِنَّهُ مَا يُسَمُّونَهُ ضَمِيرَ الشَّأْنِ وَالْقِصَّةِ، أَيْ إِنَّ الشَّأْنَ الَّذِي أَنَا فِيهِ هُوَ أَنَّ

<<  <  ج: ص:  >  >>