للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

أَوِ الْوَلَدِ إِلَى وَالِدَتِهِ، وَقَدْ جَاءَتْ فِي السُّورَةِ بِأَبْدَعِ صُورَةٍ مِنَ الْإِيجَازِ وَالْبَلَاغَةِ، وَأَعْلَى تَعْبِيرٍ مِنَ الْأَدَبِ وَالنَّزَاهَةِ، وَهُوَ:

(وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ) النِّسْوَةُ: جَمْعُ قِلَّةٍ لِلْمَرْأَةِ مِنْ غَيْرِ مَادَّةِ لَفْظِهَا، وَلَمْ يُبَيِّنْ لَنَا التَّنْزِيلُ عَدَدَهُنَّ وَلَا أَسْمَاءَهُنَّ وَلَا صِفَاتِهِنَّ؛ لِأَنَّ الْفَائِدَةَ فِي الْعِبْرَةِ مَحْصُورَةٌ فِي أَنَّ عَمَلَهُنَّ عَمَلُ جَمَاعَةٍ قَلِيلَةٍ يُعْهَدُ فِي الْعُرْفِ ائْتِمَارُهُنَّ وَاتِّفَاقُهُنَّ عَلَى الِاشْتِرَاكِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَكْرِ الْمُنْكَرِ، فِي مَدِينَةٍ كَبِيرَةٍ كَعَاصِمَةِ مِصْرَ، الَّتِي بَلَغَتْ مُنْتَهَى فِتَنِ الْحَضَارَةِ، وَمَا تَقْتَضِيهِ مِنَ التَّمَتُّعِ بِالشَّهَوَاتِ وَالزِّينَةِ، وَلَفْظُ النِّسْوَةِ مُفْرَدٌ مُذَكَّرٌ فَيَجُوزُ تَذْكِيرُ ضَمِيرِهِ لِلَفْظِهِ وَتَأْنِيثِهِ لِمَعْنَاهُ.

وَمِنْ غَرِيبِ فِتْنَةِ الرِّوَايَاتِ الْبَاطِلَةِ، أَنْ يَدَّعِيَ بَعْضُهُمْ أَنَّ اللَّوَاتِي أَجَبْنَ دَعْوَتَهَا الْآتِيَةَ مِنْهُنَّ كُنَّ أَرْبَعِينَ امْرَأَةً، وَهُوَ مَرْدُودٌ بِالتَّعْبِيرِ عَنِ الْعَاذِلَاتِ كُلِّهِنَّ بِجَمْعِ الْقِلَّةِ، وَكَذَا مَا عُلِمَ بِقَرِينَةِ الْحَالِ وَالْمَقَالِ مِنْ أَنَّهُنَّ مِنْ بُيُوتَاتِ كِبَارِ الدَّوْلَةِ، فَإِنَّ نِسَاءَ الْبُيُوتِ الدُّنْيَا وَكَذَا الْوُسْطَى لَا يَتَسَامَيْنَ - بَعْدَ الْإِنْكَارِ عَلَى امْرَأَةِ الْعَزِيزِ كَبِيرِ وُزَرَاءِ الْمَلِكِ - إِلَى الْوُصُولِ إِلَيْهَا بِالْمَكْرِ وَالْحِيلَةِ، لِمُشَارَكَتِهَا فِي فِتْنَتِهَا بَلْ نِعْمَتِهَا، أَوْ سَلْبِ عَشِيقِهَا مِنْهَا، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا يَأْتِي مِنْ عَاقِبَةِ حَادِثِهِنَّ، وَكَانَ مِنَ الطَّبِيعِيِّ الْمَعْهُودِ أَنْ يَعْرِفْنَ نَبَأَهَا مَعَهُ، وَيَكُونَ حَدِيثَهُنَّ الشَّاغِلَ لَهُنَّ فِي مَجَالِسِهِنَّ الْخَاصَّةِ، وَكَانَ خُلَاصَتُهُ

الْوَجِيزَةُ الْمُؤَدِّيَةُ لِمُرَادِهِنَّ مِنْهُ مَا حَكَاهُ التَّنْزِيلُ عَنْهُنَّ وَهُوَ قَوْلُهُنَّ: (امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ) هَذَا خَبَرٌ يُرَادُ بِهِ لَازِمُهُ، وَهُوَ التَّعَجُّبُ وَالْإِنْكَارُ الصُّورِيُّ مِنَ النَّوَاحِي أَوِ الْجِهَاتِ الْأَرْبَعِ:

(١) كَوْنُ الْمُتَحَدَّثِ عَنْهَا امْرَأَةَ عَزِيزِ مِصْرَ وَزِيرِ الْمَلِكِ الْأَكْبَرِ فِي عُلُوِّ مَرْكَزِهَا. (٢) كَوْنُهَا تُهِينُ نَفْسَهَا وَتُحَقِّرُ مَرْكَزَهَا بِأَنْ تَكُونَ مُرَاوِدَةً لِرَجُلٍ عَنْ نَفْسِهِ، وَشَأْنُ مِثْلِهَا - إِنْ سَخَتْ بِعِفَّتِهَا - أَنْ تَكُونَ مُرَاوَدَةً عَنْ نَفْسِهَا لَا مُرَاوِدَةً لِغَيْرِهَا كَمَا تَقَدَّمَ.

(٣) أَنَّ الَّذِي تُرَاوِدُهُ عَنْ نَفْسِهِ هُوَ فَتَاهَا وَرَقِيقُهَا.

(٤) أَنَّهَا بَعْدَ أَنِ افْتُضِحَ أَمْرُهَا وَعَرَفَ بِهِ سَيِّدُهَا وَزَوْجُهَا، وَعَامَلَهَا بِالْحِلْمِ، وَأَمَرَهَا بِاسْتِغْفَارِ رَبِّهَا، لَا تَزَالُ مُصِرَّةً عَلَى ذَنْبِهَا، مُسْتَمِرَّةً عَلَى مُرَاوَدَتِهَا، وَهُوَ مَا أَفَادَهُ قَوْلُهُنَّ: (تُرَاوِدُ) وَهُوَ فِعْلُ الْمُضَارِعِ الدَّالُّ عَلَى الِاسْتِمْرَارِ (قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا) أَيْ قَدِ اخْتَرَقَ حُبُّهُ شَغَافَ قَلْبِهَا أَيْ غِلَافَهُ الْمُحِيطَ بِهِ، وَغَاصَ فِي سُوَيْدَائِهِ، فَمَلَكَ عَلَيْهَا أَمْرَهَا، حَتَّى إِنَّهَا لَا تُبَالِي مَا يَكُونُ مِنْ عَاقِبَةِ تَهَتُّكِهَا، وَاللَّائِقُ بِمَقَامِهَا الْكِتْمَانُ وَمُكَابَرَةُ الْوِجْدَانِ (إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) أَيْ إِنَّا لَنَرَاهَا بِأَعْيُنِ بَصَائِرِنَا وَحُكْمِ رَأْيِنَا غَائِصَةً فِي غَمْرَةٍ مِنَ الضَّلَالِ الْبَيِّنِ الظَّاهِرِ الْبَعِيدِ عَنْ مَحَجَّةِ الْهُدَى وَالصَّوَابِ.

وَهُنَّ مَا قُلْنَ هَذَا إِنْكَارًا لِلْمُنْكَرِ وَكُرْهًا لِلرَّذِيلَةِ، وَلَا حُبًّا فِي الْمَعْرُوفِ وَنَصْرًا لِلْفَضِيلَةِ، وَإِنَّمَا قُلْنَهُ مَكْرًا وَحِيلَةً، لِيَصِلَ إِلَيْهَا فَيَحْمِلُهَا عَلَى دَعْوَتِهِنَّ، وَإِرَاءَتِهِنَّ بِأَعْيُنِ أَبْصَارِهِنَّ، مَا يُبْطِلُ مَا يَدَّعِينَ رُؤْيَتَهُ بِأَعْيُنِ بَصَائِرِهِنَّ، فَيَعْذُرُونَهَا فِيمَا عَذَلْنَهَا عَلَيْهِ، فَهُوَ مَكْرٌ لَا رَأْيٌ.

(فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ) وَكَانَ مِنَ الْمُتَوَقَّعِ أَنْ تَسْمَعَهُ لِمَا اعْتِيدَ بَيْنَ هَذِهِ الْبُيُوتِ،

<<  <  ج: ص:  >  >>