وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي هَذَا الْقَطْعِ، هَلْ كَانَ قَطْعُ إِبَانَةٍ انْفَصَلَتْ بِهِ الْكَفُّ مِنَ الْمِعْصَمِ أَوِ الْأَصَابِعُ مِنَ الْكَفِّ؟ أَمْ قَطْعُ جَرْحٍ أُطْلِقَ فِيهِ لَفْظُ بَدْءِ الشَّيْءِ عَلَى غَايَتِهِ مِنْ بَابِ الْمُبَالَغَةِ، وَهُوَ مَا يُسَمِّيهِ عُلَمَاءُ الْبَيَانِ بِالْمَجَازِ الْمُرْسَلِ؟
الْأَكْثَرُونَ عَلَى الثَّانِي، وَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ إِلَى الْيَوْمِ بِالْإِرْثِ عَنْ قُدَمَاءِ الْعَرَبِ فِيمَنْ يُحَاوِلُ قَطْعَ شَيْءٍ فَتُصِيبُ السِّكِّينُ يَدَهُ فَتَجْرَحُهَا، يَقُولُ: كُنْتُ أَقْطَعُ اللَّحْمَ أَوِ الْحَبْلَ (مَثَلًا) فَقَطَعْتُ يَدِي، كَأَنَّهُ يَقُولُ: كَادَ مَا أَرَدْتُهُ مِنْ قَطْعِ اللَّحْمِ يَكُونُ بِيَدِي مِمَّا أَخْطَأْتُ، وَلَا يُقَالُ فِيمَنْ جَرَحَ عُضْوًا مِنْهُ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ كَالطَّبِيبِ قَاصِدًا جَرْحَهُ إِنَّهُ قَطَعَهُ إِلَّا إِذَا بَالَغَ فِيهِ، يُقَالُ: أَرَادَ أَنْ يَجْرَحَ رِجْلَهُ لِيُخْرِجَ مِنْهَا شَظِيَّةً نَشِبَتْ فِيهَا فَقَطَعَهَا، يُرِيدُ أَنَّهُ بَالَغَ فَكَادَ يَقْطَعُهَا، وَقَدْ أَشَارَ الزَّمَخْشَرِيُّ إِلَى مِثْلِ هَذَا الْقَيْدِ فِي اسْتِعْمَالِ الْقَطْعِ بِمَعْنَى الْجَرْحِ فَقَالَ: ((كَمَا تَقُولُ: كُنْتُ أَقْطَعُ اللَّحْمَ فَقَطَعْتُ يَدِي)) يُرِيدُ فَأَخْطَأْتُ فَجَرَحْتُهَا حَتَّى كِدْتُ أَقْطَعُهَا (وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا) أَيْ قُلْنَ هَذَا تَعَجُّبًا وَتَنْزِيهًا لِلَّهِ - تَعَالَى - أَنْ يَكُونَ خَلَقَ هَذَا الشَّخْصَ الْعَجِيبَ فِي جَمَالِهِ وَعِفَّتِهِ مِنْ نَوْعِ الْبَشَرِ، وَهُوَ مَالَمْ
يُعْهَدُ لَهُ فِي النَّاسِ مِثْلٌ، إِنَّهُ لَيْسَ بَشَرًا مِثْلَنَا (إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ) أَيْ مَا هَذَا إِلَّا مَلَكٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ الرُّوحَانِيِّينَ تَمَثَّلَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ الْبَدِيعِيَّةِ الَّتِي تُدْهِشُ الْأَبْصَارَ وَتَخْلِبُ الْأَلْبَابَ (كَمَا كَانَ يُصَوِّرُ لَهُمْ صُنَّاعُهُمُ الرَّسَّامُونَ وَالنَّحَّاتُونَ أَرْوَاحَ الْمَلَائِكَةِ وَالْآلِهَةَ بِالصُّوَرِ وَالتَّمَاثِيلِ لِتَكْرِيمِهَا وَعِبَادَتِهَا) وَأَحْسَنُ كَلِمَةٍ رُوِيَتْ فِي الْآيَةِ عَنْ مُفَسِّرِي السَّلَفِ قَوْلُ ابْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ الْمَدَنِيِّ: أَعْطَتْهُنَّ أُتْرُنْجًا وَعَسَلًا فَكُنَّ يُحَزِّزْنَ الْأُتْرُنْجَ بِالسِّكِّينِ وَيَأْكُلْنَهُ بِالْعَسَلِ، فَلَمَّا قِيلَ لَهُ: اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ، خَرَجَ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَعْظَمْنَهُ وَتَهَيَّمْنَ بِهِ حَتَّى جَعَلْنَ يُحَزِّزْنَ أَيْدِيَهُنَّ بِالسِّكِّينِ وَفِيهَا الْأُتْرُنْجُ، وَلَا يَعْقِلْنَ وَلَا يَحْسَبْنَ إِلَّا أَنَّهُنَّ يُحَزِّزْنَ الْأُتْرُنْجَ، قَدْ ذَهَبَتْ عُقُولُهُنَّ مِمَّا رَأَيْنَ (وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا) مَا هَكَذَا يَكُونُ الْبَشَرُ، مَا هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ. انْتَهَى. فَفُسِّرَ قَطْعُ الْأَيْدِي بِحَزِّهَا، وَالْحَزُّ أَقَلُّ مَا يُحْدِثُهُ السِّكِّينُ كَالْقَرْضِ فِي الْخَشَبَةِ، وَهُنَا يَتَسَاءَلُ الْمُتَسَائِلُونَ: مَاذَا قَالَتْ لَهُنَّ، وَقَدْ غَلَبَ مَكْرُهَا مَكْرَهُنَّ؟ وَصَارَ حَالُهَا وَحَالُهُنَّ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
أَبْصَرَهُ عَاذِلِي عَلَيْهِ ... وَلَمْ يَكُنْ قَبْلَهَا رَآهُ
فَقَالَ لِي لَوْ عَشِقْتَ هَذَا ... مَا لَامَكَ النَّاسُ فِي هَوَاهُ
فَظَلَّ مِنْ حَيْثُ لَيْسَ يَدْرِي ... يَأْمُرُ بِالْعِشْقِ مَنْ نَهَاهُ
(قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ) أَيْ حِينَئِذٍ قَالَتْ لَهُنَّ مَا يُعْلَمُ شَرْحُهُ مِنْ قَرِينَةِ الْحَالِ، لِمَا جَاءَ فِي التَّنْزِيلِ مِنْ إِيجَازٍ وَإِجْمَالٍ: إِذَا كَانَ الْأَمْرُ مَا رَأَيْتُنَّ بِأَعْيُنِكُنَّ، وَمَا أَكْبَرْتُنَّ فِي
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute