للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

تَحَبَّبْ فَإِنَّ الْحُبَّ دَاعِيَةُ الْحُبِّ

فَالْحُبُّ أَقْوَى غَرَائِزِ الْبَشَرِ، وَأَكْبَرُ مَا يَفْتِنُ الرِّجَالَ بِالنِّسَاءِ وَالنِّسَاءَ بِالرِّجَالِ، وَإِنَّ مِنَ الْحُبِّ لَصَادِقًا وَكَاذِبًا، وَإِنَّ مِنَ الْعِشْقِ لَعُذْرِيًّا عَفِيفًا، وَشَهْوِيًّا فَاسِقًا، وَإِنَّ مَفَاسِدَهُ فِي الْحَضَارَةِ لِكَبِيرَةٌ، وَإِنَّ فِتْنَتَهُ لِعَظِيمَةٌ، وَسَنَعْقِدُ لَهُ فَصْلًا فِي بَابِ الْعِبْرَةِ بِالْقِصَّةِ فِي إِجْمَالِ تَفْسِيرِ السُّورَةِ.

(وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ) بِهِ، أُقْسِمُ لَكُنَّ آكَدَ الْأَيْمَانِ، وَلِتَسْمَعَ ذَلِكَ مِنْهُ الْأُذُنَانِ (لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ) أَيِ الْأَذِلَّةِ الْمَقْهُورِينَ، تَعْنِي أَنَّ زَوْجَهَا الْعَزِيزَ يُعَاقِبُهُ بِمَا تُرِيدُ مِنْ إِلْقَائِهِ فِي السِّجْنِ وَهُوَ الْمُدَبِّرُ لَهُ الْمُتَوَلِّي لِأَمْرِهِ، وَمَنْ جَعَلَهُ كَغَيْرِهِ مِنَ الْعَبِيدِ بَعْدَ تَكْرِيمِ مَثْوَاهُ وَجَعْلِهِ كَوَلَدِهِ، وَهَذَا أَشَدُّ مِمَّا أَنْذَرَتْهُ أَوَّلًا إِذْ قَالَتْ لِزَوْجِهَا عِنْدَ الْتِقَائِهِمَا بِهِ لَدَى الْبَابِ: (مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) هُنَالِكَ أَنْذَرَتْهُ أَحَدَ الْعِقَابَيْنِ: سِجْنٌ غَيْرُ مُؤَكَّدٍ، أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ نَكِرَةٌ غَيْرُ مُعَرَّفٍ، قَدْ يَكُونُ ذَلِكَ السِّجْنُ الْمُطْلَقُ بِأَخَفِّ صُوَرِهِ وَأَقَلِّهَا، وَالْعَذَابُ الْمُنْكَرُ بِأَهْوَنِ أَنْوَاعِهِ وَأَلْطَفِهَا، فَذَاكَ بِحَبْسِهِ فِي حُجْرَةٍ مِنَ الدَّارِ، وَهَذَا بِلَطْمَةٍ يَحْتَدِمُ بِهَا مَا فِي خَدَّيْهِ مِنَ الِاحْمِرَارِ، وَهُنَا أَنْذَرَتْهُ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا، وَأَكَّدَتِ السِّجْنَ بِالْقَسَمِ وَبِنُونِ التَّوْكِيدِ الثَّقِيلَةِ، وَفَسَّرَتِ الْعَذَابَ بِالصَّغَارِ الَّذِي تَأْبَاهُ الْأَنْفُسُ الْكَبِيرَةُ، وَاكْتَفَتْ فِيهِ بِالنُّونِ الْخَفِيفَةِ، وَهُوَ أَشَقُّ عَلَى مِثْلِ يُوسُفَ مِنَ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ بِالْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ؛ لِأَنَّهَا أَهْوَنُ عَلَى كِرَامِ النَّاسِ مِنَ الْهَوَانِ وَالصَّغَارِ بِاحْتِقَارِ النَّفْسِ، وَفِعْلُهُ صَغِرَ كَتَعِبَ، وَأَمَّا صَغُرَ كَضَخُمَ فَهُوَ خَاصٌّ بِصِغَرِ الْجِسْمِ، وَمِنَ الْأَوَّلِ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ٩: ٢٩.

وَفِي هَذَا التَّهْدِيدِ مِنْ ثِقَةِ هَذِهِ الْمَرْأَةِ بِسُلْطَانِهَا عَلَى زَوْجِهَا الْوَزِيرِ الْكَبِيرِ عَلَى عِلْمِهِ بِأَمْرِهَا، وَاسْتِعْظَامِهِ لِكَيْدِهَا، مَا حَقُّهُ أَنْ يُخِيفَ يُوسُفَ مِنْ تَنْفِيذِ إِرَادَتِهَا، وَيُثْبِتُ عِنْدَهُ عَدَمَ غِيرَتِهِ عَلَيْهَا، كَمَا هُوَ شَأْنُ كَثِيرٍ مِنَ الْوُزَرَاءِ الْمُتْرَفِينَ، وَلَا سِيَّمَا الْعَاجِزِينَ عَنْ

إِحْصَانِ أَزْوَاجِهِنَّ، وَالْمَحْرُومِينَ مِنْ نِعْمَةِ الْأَوْلَادِ مِنْهُنَّ، وَمَاذَا فَعَلَ يُوسُفُ وَمَا قَالَ وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ هَذِهِ الْمَرْأَةَ الْمَاكِرَةَ قَدْ عِيلَ صَبْرُهَا، وَهُتِكَتْ سِتْرُهَا، وَكَاشَفَتْ نِسْوَةَ كِبَارِ بَلَدِهَا بِمَا تُسِرُّ وَمَا تُعْلِنُ مِنْ أَمْرِهَا؟ وَرَأَى أَنَّهُنَّ تَوَاطَأْنَ مَعَهَا عَلَى كَيْدِهَا، وَرَاوَدْنَهُ عَنْ نَفْسِهِ كَمَا رَاوَدَتْهُ عَنْ نَفْسِهِ، وَهُوَ تَوَاطُؤٌ لَا قِبَلَ لِرَجُلٍ بِهِ، إِلَّا بِمَعُونَةِ رَبِّهِ وَحِفْظِهِ.

(قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) أَيْ قَالَ: أَيْ رَبِّي، الْغَالِبُ عَلَى أَمْرِي، الْعَالِمُ بِسِرِّي وَجَهْرِي، إِنَّ الْحَبْسَ وَالِاعْتِقَالَ فِي السِّجْنِ مَعَ الْمُجْرِمِينَ حَيْثُ شَظَفُ الْعَيْشِ أَحَبُّ إِلَى نَفْسِي، وَآثَرُ عِنْدِي عَلَى مَا يَدْعُونِي إِلَيْهِ هَؤُلَاءِ النِّسْوَةُ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِهِنَّ فِي تَرَفِ هَذِهِ الْقُصُورِ وَزِينَتِهَا، وَالِاشْتِغَالِ بِحُبِّهِنَّ عَنْ حُبِّكَ، وَبِقُرْبِهِنَّ عَنْ قُرْبِكَ، وَبِمُغَازَلَتِهِنَّ عَنْ

<<  <  ج: ص:  >  >>