(فَإِنْ قِيلَ) : إِنَّ يُوسُفَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمْ يَدْعُ صَاحِبَيْهِ فِي السِّجْنِ وَسَائِرِ مَنْ كَانَ مَعَهُمَا فِيهِ إِلَى غَيْرِ التَّوْحِيدِ مِنْ شَرْعِ آبَائِهِ فَمَا سَبَبُ ذَلِكَ؟ (قُلْتُ) : إِنَّ أَهْلَ مِصْرَ كَانُوا أَصْحَابَ شَرِيعَةٍ تَامَّةٍ لَمْ يُبْعَثْ لِنَسْخِهَا وَلَا لِتَغْيِيرِهَا، وَهِيَ فِي الْأَصْلِ سَمَاوِيَّةٌ، وَإِنَّمَا طَرَأَتِ الْوَثَنِيَّةُ عَلَى تَوْحِيدِهِمْ لِلَّهِ - تَعَالَى - وَأَحْدَثُوا تَقَالِيدَ خَيَالِيَّةً فِي الْبَعْثِ، فَهُوَ قَدْ دَعَاهُمْ إِلَى أَصْلِ الدِّينِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ جَمِيعُ رُسُلِ اللهِ، وَهُوَ التَّوْحِيدُ وَالْآخِرَةُ وَمَا فِيهَا مِنَ الْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ، وَقَدْ طَرَأَ عَلَيْهَا عِنْدَهُمْ مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ آنِفًا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ:
(وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ) ٣٧ يَعْنِي كُفْرَهُمْ بِأَنَّ الْجَزَاءَ يَكُونُ فِي عَالَمٍ آخَرَ بَعْدَ فَنَاءِ هَذِهِ الْأَجْسَادِ، وَبَعْثَهُمْ فِي نَشْأَةٍ أُخْرَى لَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا كَمَا يَزْعُمُونَ، وَعَقَائِدُهُمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُدَوَّنَةٌ فِي التَّارِيخِ الْمَأْخُوذِ مِنْ آثَارِ الْفَرَاعِنَةِ، وَأَشْهَرُهَا أَنَّهُمْ كَانُوا يُحَنِّطُونَ أَجْسَادَهُمْ لِأَجْلِ أَنْ تَعُودَ إِلَيْهَا الْحَيَاةُ الَّتِي فَارَقَتْهَا، وَكَانَ مُلُوكُهُمْ يَحْفَظُونَ فِي أَهْرَامِهِمْ وَغَيْرِهَا مِنْ قُبُورِهِمْ حُلِيَّهُمْ وَحُلَلَهُمْ وَمَتَاعَهُمْ لِأَجْلِ أَنْ يَتَمَتَّعُوا بِهَا فِي النَّشْأَةِ الْأُخْرَى حَيْثُ يَعُودُونَ مُلُوكًا كَمَا كَانُوا، فَهَذِهِ أَبَاطِيلُ طَرَأَتْ عَلَى الْعَقَائِدِ الْأَصْلِيَّةِ الْمُنَزَّلَةِ، وَتَقَالِيدُهُ هَذِهِ مَنْقُوشَةٌ مِنْ مَوَاضِعَ مِنَ الْأَهْرَامِ وَتَوَابِيتِ الْمَوْتَى وَصَفَائِحِ الْقُبُورِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ خَاصٌّ بِنَعِيمِ الْعَوَامِّ، وَمِنْهُ أَنَّهُمْ يَتَشَكَّلُونَ بِالصُّوَرِ الَّتِي يُحِبُّونَهَا. وَتَشَكُّلُ الْأَرْوَاحِ فِي الصُّوَرِ هُوَ الْأَصْلُ الْعِلْمِيُّ الْمَعْقُولُ لِعَقِيدَةِ الْبَعْثِ فِي هَيْكَلٍ أَثِيرِيٍّ يَلْبَسُ جَسَدًا كَثِيفًا كَالْجَسَدِ الدُّنْيَوِيِّ كَمَا رُوِيَ عَنِ الْإِمَامِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللهُ - وَمِنْهُ مَا صَحَّ فِي الْحَدِيثِ مِنْ تَشَكُّلِ أَرْوَاحِ الشُّهَدَاءِ فِي صُوَرِ طَيْرٍ خُضْرٍ تَسْرَحُ فِي الْجَنَّةِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ التَّشَكُّلُ عَلَى أَكْمَلِهِ فِي الْجَنَّةِ، جَعَلَنَا اللهُ مِنْ خَيْرِ أَهْلِهَا.
وَأَمَّا الرُّكْنُ الثَّالِثُ مِنْ دِينِ الرُّسُلِ وَهُوَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ وَتَرْكُ الْفَوَاحِشِ وَالْمُنْكَرَاتِ، فَكَانَ يُوسُفُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يَكْتَفِي مِنْهُ بِمَا كَانَ خَيْرَ قُدْوَةٍ فِيهِ كَمَا عُلِمَ مِنْ قِصَّتِهِ فِي بَيْتِ وَزِيرِ الْبِلَادِ وَفِي السِّجْنِ ثُمَّ فِي إِدَارَتِهِ لِأُمُورِ الْمَلِكِ، وَكَانَ يُقِرُّهُمْ عَلَى سَائِرِ شَرِيعَتِهِمْ كَمَا سَيَأْتِي فِي احْتِيَالِهِ عَلَى أَخْذِ أَخِيهِ الشَّقِيقِ بِمُقْتَضَى شَرِيعَتِهِمُ الْإِسْرَائِيلِيَّةِ بِقَوْلِ اللهِ - تَعَالَى -: (مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ) ٧٦. الْخَ. وَبَعْدَ أَنْ أَدَّى يُوسُفُ رِسَالَةَ رَبِّهِ عَبَّرَ لِصَاحِبَيْهِ رُؤْيَاهُمَا بِقَوْلِهِ:
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute