وَتَرْجِيحِ الِاجْتِهَادِ عَلَى النَّصِّ، فَعَلَيْنَا أَلَّا نَحْفِلَ بِكُلِّ مَا قِيلَ، وَأَنْ نَعْتَصِمَ بِكِتَابِ اللهِ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ، ثُمَّ بِسُنَّةِ رَسُولِهِ الَّتِي جَرَى عَلَيْهَا أَصْحَابُهُ وَالسَّلَفُ الصَّالِحُونَ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ يُخَالِفُ الْكِتَابَ الْعَزِيزَ.
وَصَفْوَةُ الْقَوْلِ أَنَّ الْآيَةَ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ بِآيَةِ الْمَوَارِيثِ لِأَنَّهَا لَا تُعَارِضُهَا بَلْ تُؤَيِّدُهَا، وَلَا دَلِيلَ عَلَى أَنَّهَا بَعْدَهَا، وَلَا بِالْحَدِيثِ ; لِأَنَّهُ لَا يَصْلُحُ لِنَسْخِ الْكِتَابِ، فَهِيَ مُحْكَمَةٌ وَحُكْمُهَا بَاقٍ، وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَهُ خَاصًّا بِمَنْ لَا يَرِثُ مِنَ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ كَمَا رُوِيَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ وَأَنْ تَجْعَلَهُ عَلَى إِطْلَاقِهِ، وَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُجَازِفِينَ الَّذِينَ يُخَاطِرُونَ بِدَعْوَى النَّسْخِ فَتَنْبِذُ مَا كَتَبَهُ اللهُ عَلَيْكَ بِغَيْرِ عُذْرٍ، وَلَا سِيَّمَا بَعْدَمَا أَكَّدَهُ بِقَوْلِهِ: (حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) أَيْ: حَقَّ ذَلِكَ الَّذِي كُتِبَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْوَصِيَّةِ أَوْ حَقَّقْتُهُ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ لِي، الْمُطِيعِينَ لِكِتَابِي. وَالْمُتَبَادَرُ أَنَّ مَعْنَى الْمَكْتُوبِ: الْمَفْرُوضُ، وَبِهِ قَالَ بَعْضُهُمْ هُنَا، وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّهُ لِلنَّدْبِ، وَيُؤَيِّدُ الْفَرْضِيَّةَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي وَعِيدِ الْمُبَدِّلِينَ لَهُ: (فَمَنْ بَدَّلَهُ) أَيْ: بَدَّلَ مَا أَوْصَى بِهِ الْمُوصِي (بَعْدَمَا سَمِعَهُ) مِنَ الْمُوصِي أَوْ عَلِمَ بِهِ عِلْمًا صَحِيحًا مِنْ كِتَابَةِ الْوَصِيَّةِ وَهُوَ مَشْرُوعٌ كَمَا سَيَأْتِي وَمِنَ الْحُكْمِ بِهَا (فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ) مِنْ وَلِيٍّ وَوَصِيٍّ وَشَاهِدٍ وَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ ذِمَّةُ الْمُوصِي وَثَبَتَ أَجْرُهُ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى (إِنِ اللهَ سَمِيعٌ) لِمَا يَقُولُهُ الْمُبَدِّلُونَ فِي ذَلِكَ (عَلِيمٌ)
بِأَعْمَالِهِمْ فِيهِ فَيُجَازِيهِمْ عَلَيْهَا، وَهُوَ يَتَضَمَّنُ تَأْكِيدَ الْوَعِيدِ، وَالضَّمِيرُ فِي الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ رَاجِعٌ إِلَى الْحَقِّ أَوِ الْإِيصَاءِ ; أَيْ: أَثَرِهِ وَمُتَعَلَّقِهِ.
وَقَدْ قَالَ بِوُجُوبِ الْوَصِيَّةِ بَعْضُ عُلَمَاءِ السَّلَفِ وَاسْتَدَلُّوا عَلَيْهِ بِالْآيَةِ وَبِحَدِيثِ ((مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ وَلَهُ شَيْءٌ يُرِيدُ أَنْ يُوصِيَ بِهِ إِلَّا وَوَصِيَّتُهُ عِنْدَ رَأْسِهِ)) رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ كُلُّهُمْ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ. وَمِنْهُمْ عَطَاءٌ وَالزُّهْرِيُّ وَأَبُو مِجْلَزٍ وَطَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ. وَحَكَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ وَبِهِ قَالَ إِسْحَاقُ وَدَاوُدُ. وَاخْتَارَهُ أَبُو عَوَانَةَ الْإِسْفَرَايِينِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَآخَرُونَ اهـ. مِنْ فَتْحِ الْبَارِي، وَقَالَ الْجُمْهُورُ: مَنْدُوبَةٌ، وَتَقَدَّمَ قَوْلُهُمْ فِي الْآيَةِ.
ثُمَّ قَالَ: (فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ) الْجَنَفُ - بِالتَّحْرِيكِ - الْخَطَأُ، وَالْإِثْمُ يُرَادُ بِهِ تَعَمُّدُ الْإِجْحَافِ وَالظُّلْمِ، وَالْمُوصِي فَاعِلُ الْإِيصَاءِ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَيَعْقُوبُ (مُوَصٍّ) بِالتَّشْدِيدِ مِنَ التَّوْصِيَةِ. وَالْمَعْنَى إِنْ خَرَجَ الْمُوصِي فِي وَصِيَّتِهِ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَالْعَدْلِ خَطَأً أَوْ عَمْدًا فَتَنَازَعَ الْمُوصَى لَهُمْ فِيهِ أَوْ تَنَازَعُوا مَعَ الْوَرَثَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَوَسَّطَ بَيْنَهُمْ مَنْ يَعْلَمُ بِذَلِكَ وَيُصْلِحُ بَيْنَهُمْ، وَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْإِصْلَاحِ إِذَا وَجَدَ فِيهِ شَيْئًا مِنْ تَبْدِيلِ الْجَنَفِ وَالْحَيْفِ ; لِأَنَّهُ تَبْدِيلُ بَاطِلٍ إِلَى حَقٍّ وَإِزَالَةُ مَفْسَدَةٍ بِمَصْلَحَةٍ، فَقَلَّمَا يَكُونُ إِصْلَاحٌ إِلَّا بِتَرْكِ بَعْضِ الْخُصُومِ شَيْئًا مِمَّا يَرَاهُ حَقًّا لَهُ لِلْآخَرِ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْآيَةُ اسْتِثْنَاءٌ مِمَّا قَبْلَهَا ; أَيْ: إِنَّ الْمُبَدِّلَ لِلْوَصِيَّةِ آثِمٌ إِلَّا مَنْ رَأَى إِجْحَافًا أَوْ جَنَفًا فِي الْوَصِيَّةِ فَبَدَّلَ فِيهَا لِأَجْلِ الْإِصْلَاحِ وَإِزَالَةِ التَّخَاصُمِ وَالتَّنَازُعِ وَالتَّعَادِي بَيْنَ الْمُوصَى لَهُمْ، فَعَبَّرَ بِـ (خَافَ)
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute