للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فِي الْمَعَاصِي ; إِذْ لَا يَطُولُ أَمَدُ غَفْلَتِهِ عَنِ اللهِ تَعَالَى، وَإِذَا نَسِيَ وَأَلَمَّ بِشَيْءٍ مِنْهَا يَكُونُ سَرِيعَ التَّذَكُّرِ قَرِيبَ الْفَيْءِ وَالرُّجُوعِ بِالتَّوْبَةِ الصَّحِيحَةِ (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ) (٧: ٢٠١) فَالصِّيَامُ أَعْظَمُ مُرَبٍّ لِلْإِرَادَةِ، وَكَابِحٍ لِجِمَاحِ الْأَهْوَاءِ، فَأَجْدَرُ بِالصَّائِمِ أَنْ يَكُونَ حُرًّا يَعْمَلُ مَا يَعْتَقِدُ أَنَّهُ خَيْرٌ، لَا عَبْدًا لِلشَّهَوَاتِ.

إِنَّمَا رُوحُ الصَّوْمِ وَسِرُّهُ فِي هَذَا الْقَصْدِ وَالْمُلَاحَظَةِ الَّتِي تُحْدِثُ هَذِهِ الْمُرَاقَبَةَ، وَهَذَا هُوَ مَعْنَى كَوْنِ الْعَمَلِ لِوَجْهِ اللهِ تَعَالَى، وَقَدْ لَاحَظَهُ مَنْ أَوْجَبَ مِنَ الْأَئِمَّةِ تَبْيِيتَ النِّيَّةِ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا وَرَدَ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ)) رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ - قَالُوا: أَيْ مِنَ الصَّغَائِرِ، وَقَدْ يَكُونُ الْغُفْرَانُ لِلْكَبَائِرِ مَعَ التَّوْبَةِ مِنْهَا ; لِأَنَّ الصَّائِمَ احْتِسَابًا وَإِيمَانًا عَلَى مَا بَيَّنَّا يَكُونُ مِنَ التَّائِبِينَ عَمَّا اقْتَرَفَهُ فِيمَا قَبْلَ الصَّوْمِ، وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الْقُدُسِيِّ: ((كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصَّوْمُ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ)) وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ ((يَدَعُ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَشَهْوَتَهُ مِنْ أَجْلِي)) رَوَاهُمَا الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ.

وَقَدْ شَرَحَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي هَذَا الْمَقَامِ حَالَ أُولَئِكَ الْغَافِلِينَ عَنِ اللهِ وَعَنْ أَنْفُسِهِمُ الَّذِينَ يُفْطِرُونَ فِي رَمَضَانَ عَمْدًا، وَذَكَرَ بَعْضَ حِيَلِ الَّذِينَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ كَالْأَدْنِيَاءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ وَلَوْ فِي بُيُوتِ الْأَخْيِلَةِ حَيْثُ تَأْكُلُ الْجُرُذُ، وَالَّذِينَ يَغْطِسُونَ فِي الْجَدَاوِلِ وَالْأَنْهَارِ وَيَشْرَبُونَ فِي أَثْنَاءِ ذَلِكَ،

وَمَا قَذَفَ بِهَؤُلَاءِ وَأَمْثَالِهِمْ وَمَنْ هُمْ شَرٌّ مِنْهُمْ - كَالْمُجَاهِرِينَ بِالْفِطْرِ - إِلَّا تَلْقِينُهُمُ الْعِبَادَةَ جَافَّةً خَالِيَةً مِنَ الرُّوحِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، وَالسِّرِّ الَّذِي أَفْشَيْنَاهُ، فَحَسِبُوهَا عُقُوبَةً كَمَا كَانَ يَحْسَبُهَا الْوَثَنِيُّونَ مِنْ قَبْلُ، وَمَا كُلُّ إِنْسَانٍ يَتَحَمَّلُ الْعُقُوبَةَ رَاضِيًا مُخْتَارًا. ثُمَّ قَالَ مَا مِثَالُهُ:

وَهَاهُنَا شَيْءٌ ذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ وَيَشْمَئِزُّ الْإِنْسَانُ مِنْ شَرْحِهِ وَبَيَانِهِ، وَهُوَ أَنَّ الصَّوْمَ يَكْسِرُ الشَّهْوَةَ بِطَبْعِهِ فَتَضْعُفُ النُّفُوسُ وَيَعْجَزُ الْإِنْسَانُ عَنِ الشَّهَوَاتِ وَالْمَعَاصِي. وَفِيهِ مِنْ مَعْنَى الْعُقُوبَةِ وَالْإِعْنَاتِ مَا كَانَ يَفْهَمُهُ الْكَثِيرُ مِنْ جَمِيعِ مَطَالِبِ الدِّينِ وِرَاثَةً عَنْ آبَائِهِمُ الْأَوَّلِينَ مِنْ أَهْلِ الدِّيَانَاتِ الْأُخْرَى، وَإِذَا طَبَّقْنَا هَذَا الْقَوْلَ عَلَى مَا نَعْهَدُهُ وُجُودًا وَوُقُوعًا لَا نَجِدُهُ وَاقِعًا ; لِأَنَّ الْمَعْرُوفَ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا جَاعَ يَضْرِي بِالشَّهَوَاتِ وَتَقْوَى نَهْمَتُهُ وَيَشْتَدُّ قَرْمُهُ، وَآثَارُ هَذَا ظَاهِرَةٌ فِي صَوْمِ أَكْثَرِ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّهُمْ فِي رَمَضَانَ أَكْثَرُ تَمَتُّعًا بِالشَّهَوَاتِ مِنْهُمْ فِي عَامَّةِ السَّنَةِ، فَمَا سَبَبُ هَذَا وَمَا مَثَارُهُ؟ أَلَيْسَ هُوَ الضَّرَاوَةُ بِالشَّهَوَاتِ؟ بَلَى. وَلَا يُنَافِي مَا ذَكَرَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ تَشْبِيهُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصَّوْمَ بِالْوِجَاءِ فِي كَسْرِ سَوْرَةِ الشَّهْوَةِ ; لِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ تَأْثِيرَهُ فِي تَرْبِيَةِ النَّفْسِ وَتَقْوِيَةِ الْإِيمَانِ يَجْعَلُ صَاحِبَهُ مَالِكًا لِنَفْسِهِ يَصْرِفُهَا حَسَبَ الشَّرْعِ لَا حَسَبَ الشَّهْوَةِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>