للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الْجُسْمَانِيِّ، وَأَمَّا الرُّوحَانِيُّ فَلَا، وَأَعْرِفُ رَجُلًا لَا يَغْضَبُ فِي رَمَضَانَ مِمَّا يَغْضَبُ لَهُ فِي غَيْرِهِ، وَلَا يَمَلَّ مِنْ حَدِيثِ النَّاسِ مَا كَانَ يَمَلُّهُ فِي أَيَّامِ الْفِطْرِ ; وَذَلِكَ لِأَنَّهُ صَائِمٌ لِوَجْهِ اللهِ تَعَالَى: (وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَعْنِي نَفْسَهُ) وَيُؤَيِّدُ قَوْلَهُ مَا وَرَدَ فِي عَلَامَاتِ الصَّائِمِ مِنْ تَرْكِ الْمَعَاصِي وَالْمَآتِمِ، وَمِنْهَا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ وَالْبُخَارِيِّ وَأَصْحَابِ السُّنَنِ إِلَّا النِّسَائِيِّ مَرْفُوعًا ((مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ)) .

أَيْنَ هَذَا كُلُّهُ مِنَ الصَّوْمِ الَّذِي عَلَيْهِ أَكْثَرُ النَّاسِ، وَهُوَ مَا تَرَاهُمْ مُتَّفِقِينَ عَلَيْهِ مِنْ إِثَارَتِهِ لِسُرْعَةِ السُّخْطِ وَالْحُمْقِ وَشِدَّةِ الْغَضَبِ لِأَدْنَى سَبَبٍ، وَاشْتُهِرَ هَذَا بَيْنَهُمْ

وَأَخَذُوهُ بِالتَّسْلِيمِ حَتَّى صَارُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ أَثَرٌ طَبِيعِيٌّ لِلصَّوْمِ، فَهُمْ إِذَا أَفْحَشَ أَحَدُهُمْ قَالَ الْآخَرُ: لَا عَتَبَ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ صَائِمٌ. وَهُوَ وَهْمٌ اسْتَحْوَذَ عَلَى النُّفُوسِ فَحَلَّ مِنْهَا مَحَلَّ الْحَقِيقَةِ وَكَانَ لَهُ أَثَرُهَا، وَمَتَى رَسَخَ الْوَهْمُ فِي النَّفْسِ يَصْعُبُ انْتِزَاعُهُ عَلَى الْعُقَلَاءِ الَّذِينَ يَتَعَاهَدُونَ أَنْفُسَهُمْ بِالتَّرْبِيَةِ الْحَقِيقِيَّةِ دَائِمًا، فَكَيْفَ حَالُ الْغَافِلِينَ عَنْ أَنْفُسِهِمِ، الْمُنْحَدِرِينَ فِي تَيَّارِ الْعَادَاتِ وَالتَّقَالِيدِ الشَّائِعَةِ، لَا يَتَفَكَّرُونَ فِي مَصِيرِهِمْ، وَلَا يَشْعُرُونَ فِي أَيِّ لُجَّةٍ يُقْذَفُونَ، فَتَأْثِيرُ الصَّوْمِ فِي أَنْفُسِهِمْ مُنَافٍ لِلتَّقْوَى الَّتِي شُرِعَ لِأَجْلِهَا، وَمُخَالِفٌ لِلْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ الَّتِي وَصَفَ بِهَا أَهْلَهَا، وَمِنْ أَشْهَرِهَا حَدِيثُ ((الصِّيَامُ جُنَّةٌ)) وَهِيَ - بِضَمِّ الْجِيمِ - الْوِقَايَةُ وَالسِّتْرُ، فَهُوَ يَقِي صَاحِبَهُ مِنَ الْمَعَاصِي وَالْآثَامِ، وَمِنْ عِقَابِهَا وَغَايَتِهِ دُخُولُ النَّارِ، وَلِلْحَدِيثِ أَلْفَاظٌ وَفِيهِ زِيَادَةٌ فِي الصِّحَاحِ وَالسُّنَنِ. وَذَكَرَ الْحَافِظُ فِي شَرْحِهِ مِنَ الْفَتْحِ لَفْظَ أَبِي عُبَيْدَةَ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) عِنْدَ أَحْمَدَ ((الصِّيَامُ جُنَّةٌ مَا لَمْ يَخْرِقْهَا)) زَادَ الدَّارِمِيُّ ((بِالْغِيبَةِ)) وَقَالَ فِي هَذِهِ الزِّيَادَةِ: إِنَّ الْغِيبَةَ تَضُرُّ بِالصِّيَامِ، وَحَكَى عَنْ عَائِشَةَ وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: إِنَّ الْغِيبَةَ تُفْطِرُ الصَّائِمَ وَتُوجِبُ قَضَاءَ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَأَفْرَطَ ابْنُ حَزْمٍ فَقَالَ يُبْطِلُهُ كُلُّ مَعْصِيَةٍ مِنْ مُتَعَمِّدٍ لَهَا ذَاكِرٍ لِصَوْمِهِ إِلَخْ. وَقَالَ الْغَزَّالِيُّ فِيمَنْ يَعْصِي اللهَ وَهُوَ صَائِمٌ: إِنَّهُ كَمَنْ يَبْنِي قَصْرًا وَيَهْدِمُ مِصْرًا.

قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ يُلَاحِظُونَ فِي صَوْمِهِمْ حِفْظَ رَسْمِ الدِّينِ الظَّاهِرِ وَمُوَافَقَةَ النَّاسِ فِيمَا هُمْ فِيهِ، حَتَّى إِنَّ الْحَائِضَ تَصُومُ وَتَرَى الْفِطْرَ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ عَارًا وَمَأْثَمًا، وَلَا بَأْسَ بِهَذَا الصَّوْمِ مِنْ غَيْرِ الْحَائِضِ لِحِفْظِ ظَاهِرِ الْإِسْلَامِ، وَإِقَامَةِ هَيْكَلِ شَعَائِرِهِ، وَلَكِنَّهُ لَا يُفِيدُ الْأَفْرَادَ شَيْئًا فِي دِينِهِمْ وَلَا فِي دُنْيَاهُمْ لِخُلُوِّهِ مِنَ الرُّوحِ الَّذِي يُعِدُّهُمْ لِلتَّقْوَى، وَيُؤَهِّلُهُمْ لِسَعَادَةِ الْآخِرَةِ وَالدُّنْيَا، وَذَكَرَ فِي الدَّرْسِ مَا عَلَيْهِ النَّاسُ مِنَ الِاسْتِعْدَادِ لِمَآكِلِ رَمَضَانَ وَشَرَابِهِ بِحَيْثُ يُنْفِقُونَ فِيهِ عَلَى ذَلِكَ مَا يَكَادُ يُسَاوِي نَفَقَةَ سَائِرِ السَّنَةِ. حَتَّى كَأَنَّهُ مَوْسِمُ أَكْلٍ، وَكَأَنَّ الْإِمْسَاكَ عَنِ الطَّعَامِ فِي النَّهَارِ إِنَّمَا هُوَ لِأَجْلِ الِاسْتِكْثَارِ مِنْهُ فِي اللَّيْلِ، وَهَذَا هُوَ الصَّوْمُ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((كَمْ مِنْ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ صَوْمِهِ إِلَّا الْجُوعُ وَالْعَطَشُ)) رَوَاهُ النِّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَلَا نُطِيلُ بِشَرْحِ مَا عَلَيْهِ النَّاسُ فَهُمْ يَعْلَمُونَهُ عِلْمًا تَامًّا، وَفِيمَا كُتِبَ كِفَايَةٌ لِمَنْ يُرِيدُ مَعْرِفَةَ حَقِّهِ مِنْ بَاطِلِهِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>