وَجَبَ الْإِفْطَارُ، وَقَدْ فَصَّلْنَا مَسْأَلَةَ الْخِلَافِ فِي الْأَفْضَلِ لِلْمُسَافِرِ، وَالْمُخْتَارُ عِنْدَنَا أَنَّ الصِّيَامَ أَفْضَلُ إِذَا كَانَ أَيْسَرَ وَلَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ مَحْظُورٌ آخَرُ كَحَمْلِ رِفَاقِهِ فِي السَّفَرِ عَلَى خِدْمَتِهِ، أَوْ عَجْزِهِ عَنِ الْقِيَامِ بِبَعْضِ الْمَنْدُوبَاتِ وَمَا لَا بُدَّ مِنْهُ لِلْمُسَافِرِ وَإِنْ لَمْ يَقُمْ بِهِ رِفَاقُهُ، فَإِنْ كَانَ يُعْجِزُهُ عَنْ عَمَلٍ وَاجِبٍ وَجَبَ الْفِطْرُ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْمُتَقَدِّمِ فِي مَسْأَلَةِ الْقُوَّةِ عَلَى الْقِتَالِ، وَالْمَرِيضُ كَالْمُسَافِرِ فِي مَسْأَلَةِ الْأَفْضَلِ لَهُ وَأَنَّهُ الْأَيْسَرُ، وَمِنَ الْأَمْرَاضِ مَا يَكُونُ الصِّيَامُ عِلَاجًا لَهُ أَوْ مُسَاعِدًا عَلَى زَوَالِهِ كَمَا عُلِمَ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ مِنْ فَوَائِدِهِ الصِّحِّيَّةِ.
الثَّالِثُ: مَنْ يَشُقُّ عَلَيْهِ الصَّوْمُ لِسَبَبٍ لَا يُرْجَى زَوَالُهُ كَالْهَرَمِ وَضَعْفِ الْبِنْيَةِ الَّذِي لَا يُرْجَى زَوَالُهُ وَالْأَشْغَالِ الشَّاقَّةِ الدَّائِمَةِ وَالْمَرَضِ الزَّمِنِ الَّذِي لَا يُرْجَى بُرْؤُهُ،
وَكَذَلِكَ مَنْ يَتَكَرَّرُ سَبَبُ مَشَقَّتِهِ كَالْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ، وَهَؤُلَاءِ لَهُمْ أَنْ يُفْطِرُوا وَيُطْعِمُوا بَدَلًا عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا مَا يُشْبِعُ الرَّجُلَ الْمُعْتَدِلَ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى بَعْدَ بَيَانِ الْوَاجِبِ الْحَتْمِ وَالرُّخَصِ فِيهِ: (فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا) بِأَنْ زَادَ عَلَى تِلْكَ الْأَيَّامِ الْمَعْدُودَاتِ (فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ) لِأَنَّ فَائِدَتَهُ وَثَوَابَهُ لَهُ، وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: (فَمَنْ تَطَوَّعَ) تَدُلُّ عَلَى هَذَا لِأَنَّهَا تَفْرِيعٌ عَلَى حَصْرِ الْفَرْضِيَّةِ فِي الْأَيَّامِ الْمَعْدُودَاتِ، وَلَا يَصْلُحُ تَفْرِيعًا عَلَى حُكْمِ الْفِدْيَةِ ; لِأَنَّ مَنْ سَقَطَ عَنْهُ الْفَرْضُ دَائِمًا مَعَ الْفِدْيَةِ عَنْهُ لَا يُعْقَلُ أَنْ يُنْدَبَ لِلتَّطَوُّعِ الَّذِي هُوَ الزِّيَادَةُ عَلَى الْفَرْضِ. وَجَعَلَ (الْجَلَالُ) التَّطَوُّعَ مُتَعَلِّقًا بِالْكَفَّارَةِ بِأَنْ يَزِيدَ عَلَى إِطْعَامِ الْمِسْكِينِ، وَاسْتَبْعَدَهُ شَيْخُنَا. وَأَقْرَبُ مِنْهُ شُمُولُهُ لَهُمَا.
(وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ) أَيْ: وَالصِّيَامُ خَيْرٌ لَكُمْ كَمَا قَرَأَهَا أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) وَإِنَّمَا هِيَ تَفْسِيرٌ ; أَيْ: خَيْرٌ عَظِيمٌ لِمَا فِيهِ مِنْ رِيَاضَةِ الْجَسَدِ وَالنَّفْسِ وَتَرْبِيَةِ الْإِرَادَةِ وَتَغْذِيَةِ الْإِيمَانِ بِالتَّقْوَى وَتَقْوِيَتِهِ بِمُرَاقَبَةِ اللهِ تَعَالَى. قَالَ أَبُو أُمَامَةَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مُرْنِي بِأَمْرٍ آخُذُهُ عَنْكَ قَالَ: ((عَلَيْكَ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَا مِثْلَ لَهُ)) رَوَاهُ النَّسَائِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ. (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) وَجْهَ الْخَيْرِيَّةِ فِيهِ، لَا إِنْ كُنْتُمْ تَصُومُونَ تَقْلِيدًا مِنْ غَيْرِ فِقْهٍ وَلَا عِلْمٍ بِسِرِّ الْحُكْمِ وَحِكْمَةِ التَّشْرِيعِ، وَكَوْنِهِ لِمَصْلَحَةِ الْمُكَلَّفِينَ ; لِأَنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ، أَوِ اتِّبَاعًا لِعَادَاتِ الْخُلَطَاءِ وَالْمُعَاشِرِينَ. هَذَا مَا يَظْهَرُ مِنَ الْآيَةِ، وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ الْخِطَابَ فِيهَا لِأَهْلِ الرُّخَصِ وَأَنَّ الصِّيَامَ فِي رَمَضَانَ خَيْرٌ لَهُمْ مِنَ التَّرَخُّصِ بِالْإِفْطَارِ، وَهَذَا غَيْرُ مُطَّرِدٍ وَلَا مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ، وَتُنَافِيهِ أَحَادِيثُ وَرَدَتْ، وَيُبْعِدُهُ التَّفْرِيعُ بِالْفَاءِ كَمَا قَدَّمْنَا، وَبَيَّنَّا مَا هُوَ الْأَفْضَلُ مِنْهُ وَمِنَ الْفِطْرِ.
(شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أَنْزِلُ فِيهِ الْقُرْآنُ) هَذِهِ الْآيَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لِبَيَانِ تِلْكَ الْأَيَّامِ الْمَعْدُودَاتِ الَّتِي كُتِبَتْ عَلَيْنَا وَأَنَّهَا أَيَّامُ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَأَنَّ الْحِكْمَةَ فِي تَخْصِيصِ هَذَا الشَّهْرِ بِهَذِهِ الْعِبَادَةِ هِيَ أَنَّهُ الشَّهْرُ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ، وَأُفِيضَتْ عَلَى الْبَشَرِ فِيهِ هِدَايَةُ الرَّحْمَنِ، بِبِعْثَةِ مُحَمَّدٍ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute