للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

السَّلَفِيِّينَ ; فَإِنَّ الْبَائِنَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ - الَّذِي لَا يَتَحَيَّزُ وَلَا يَتَحَدَّدُ - هُوَ الَّذِي تَكُونُ نِسْبَةُ جَمِيعِ الْأَمْكِنَةِ وَمَنْ فِيهَا إِلَيْهِ وَاحِدَةً، وَهِيَ الْبَيْنُونَةُ الْمُطْلَقَةُ

الَّتِي يَقْتَضِيهَا الْعُلُوُّ الْمُطْلَقُ فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ وَالْإِحَاطَةُ بِكُلِّ شَيْءٍ، وَقُرْبُ الصِّفَاتِ لَا يُعْقَلُ بِدُونِ قُرْبِ الذَّاتِ ; إِذْ لَا انْفِصَالَ بَيْنَهُمَا وَلَا انْفِكَاكَ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ مَذْهَبَ السَّلَفِ إِمْرَارُ النُّصُوصِ فِي الصِّفَاتِ عَلَى ظَاهِرِهَا مِنْ غَيْرِ تَعْطِيلٍ وَلَا تَمْثِيلٍ وَلَا تَأْوِيلٍ. وَاللهُ تَعَالَى قَدْ أَسْنَدَ ((الْقُرْبَ)) فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَآيَتَيْ سُورَةِ الْوَاقِعَةِ وَسُورَةِ ق إِلَى ذَاتِهِ، فَنَأْخُذُ هَذَا الْإِسْنَادَ عَلَى ظَاهِرِهِ مَعَ إِثْبَاتِ تَنْزِيهِهِ عَنْ مُمَاثَلَةِ خَلْقِهِ، وَإِثْبَاتِ صِفَاتِ الْكَمَالِ لَهُ الَّتِي يُفْهَمُ بِهَا الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْقُرْبِ فِي كُلِّ سِيَاقٍ بِحَسَبِهِ، وَالْجَامِعُ فِيهِ مَا ذَكَرَهُ الْأُسْتَاذُ مِنَ الْإِيجَادِ لِلْعِبَادِ وَالْإِمْدَادِ لَهُمْ فِي أَثْنَاءِ وُجُودِهِمْ وَمَصِيرِهِمْ إِلَيْهِ بَعْدَ انْتِهَاءِ آجَالِهِمْ، فَالْقُرْبُ فِي سُورَةِ (ق) يُنَاسِبُ الْإِيجَادَ وَالْإِمْدَادَ بِالْعِلْمِ وَالْحِفْظِ عَلَى قَوْلِهِمْ: إِنَّ قَوْلَهُ: (إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ) (٥٠: ١٧) مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) (٥٠: ١٦) وَالْقُرْبُ فِي سُورَةِ الْوَاقِعَةِ يُنَاسِبُ الْمَصِيرَ إِلَيْهِ تَعَالَى كَمَا يُعْلَمُ مِمَّا بَعْدَهُ، وَقُرْبُهُ فِي الْآيَةِ الَّتِي نُفَسِّرُهَا يُنَاسِبُ الْإِمْدَادَ بِسَمْعِ الدُّعَاءِ وَإِجَابَتِهِ وَهِيَ مِنْ مُتَعَلِّقَاتِ الْقُدْرَةِ وَالرَّحْمَةِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ تَقْرِيرُ تَوْحِيدِ الْعِبَادَةِ كَمَا قَرَّرْنَاهُ آنِفًا، وَقَدْ بَيَّنَهُ بَيَانًا مُسْتَأْنَفًا بِقَوْلِهِ:

(أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ) مِنْهُمْ بِنَفْسِي مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ (إِذَا دَعَانِ) وَتَوَجَّهَ إِلَيَّ وَحْدِي فِي طَلَبِ حَاجَتِهِ ; أَيْ: يَجِبُ أَنْ يُدْعَى وَحْدَهُ بِدُونِ وَاسِطَةٍ ; لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي خَلَقَ الْإِنْسَانَ وَيَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ بِدُونِ وَاسِطَةٍ، وَهُوَ الَّذِي يُجِيبُ دَعْوَتَهُ وَحْدَهُ بِدُونِ وَاسِطَةٍ تُعِينُهُ أَوْ تُسَاعِدُهُ أَوْ تَنُوبُ عَنْهُ فِي الْإِجَابَةِ وَقَضَاءِ الْحَاجَةِ أَوْ تُؤَثِّرُ فِي إِرَادَتِهِ.

وَقَدْ فَسَّرُوا الدَّعْوَةَ بِطَلَبِ الْحَاجَاتِ وَقَالُوا: إِنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ أَنَّ الْإِجَابَةَ وَصْفٌ لَازِمٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَأَنَّهُ يُجِيبُ كُلَّ دَاعٍ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ كَمَا هُوَ ثَابِتٌ بِالْمُشَاهَدَةِ. وَأَجَابُوا بِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ مِنْ شَأْنِهِ الْإِجَابَةَ فَهُوَ يُجِيبُ إِنْ شَاءَ كَمَا قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: (فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ) (٦: ٤١) فَهُوَ عَلَى حَدِّ قَوْلِكَ: فُلَانٌ يُعْطِي الْكَثِيرَ فَاطْلُبْ مِنْهُ ; أَيْ: إِنَّ مِنْ شَأْنِهِ ذَلِكَ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يُعْطِيَ كُلَّ طَالِبٍ عَيْنَ مَا طَلَبَهُ. وَأَجَابَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ الْإِجَابَةَ أَعَمُّ مِنْ إِعْطَاءِ السُّؤَالِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ الْإِجَابَةَ تَكُونُ بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: إِمَّا أَنْ يُعَجِّلَ لَهُ دَعْوَتَهُ، وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَ لَهُ، وَإِمَّا أَنْ يَكُفَّ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَهَا. وَلَا حَاجَةَ إِلَى التَّأْوِيلِ إِذْ لَا مَحَلَّ لِلْإِشْكَالِ ; فَإِنَّ الْآيَةَ سِيقَتْ لِبَيَانِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَرِيبٌ مِنْ عِبَادِهِ الْمُتَوَجِّهِينَ إِلَيْهِ، فَلَا حَاجَةَ بِهِمْ إِلَى الصِّيَاحِ

بِتَكْبِيرِهِ وَدُعَائِهِ، وَلَا إِلَى أَنْ يَتَّخِذُوا وُسَطَاءَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ فِي التَّوَجُّهِ إِلَيْهِ وَسُؤَالِ رَحْمَتِهِ وَفَضْلِهِ، بَلْ يَجِبُ أَنْ يَصْمُدُوا إِلَيْهِ وَحْدَهُ، فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي يُجِيبُ دُعَاءَهُمْ وَحْدَهُ.

<<  <  ج: ص:  >  >>