للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

النَّصَارَى نَحْوَ هَذَا فِي بَيْعِ الْعِبَادَةِ الَّتِي يُسَمُّونَهَا الْقَدَادِيسَ فَنَسْخَرُ مِنْهُمْ، حَتَّى عَلِمْنَا أَنَّنَا قَدِ اتَّبَعْنَا سَنَنَهُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ حَتَّى دَخَلْنَا فِي جُحْرِ الضَّبِّ الَّذِي دَخَلُوهُ.

قَالَ الْأُسْتَاذُ: إِنَّ كُلَّ أَجْرٍ يُؤْخَذُ عَلَى عِبَادَةٍ فَهُوَ أَكْلٌ لِأَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ، وَقَدْ مَضَى الصَّدْرُ الْأَوَّلُ وَلَمْ يَكُنْ أَخْذُ الْأَجْرِ عَلَى عِبَادَةٍ مَا مَعْرُوفًا، وَلَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ أَهْلِ الْقَرْنِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي كَلِمَةٌ تُشْعِرُ بِذَلِكَ، ثُمَّ لَا يُعْقَلُ أَنْ تُحَقَّقَ الْعِبَادَةُ وَتَحْصُلَ بِالْأُجْرَةِ ; لِأَنَّ تَحَقُّقَهَا إِنَّمَا يَكُونُ بِالنِّيَّةِ وَإِرَادَةِ وَجْهِ اللهِ تَعَالَى وَابْتِغَاءِ مَرْضَاتِهِ بِامْتِثَالِ أَمْرِهِ، وَمَتَى شَابَ هَذِهِ النِّيَّةَ شَائِبَةٌ مِنْ حَظِّ الدُّنْيَا خَرَجَ الْعَمَلُ عَنْ كَوْنِهِ عِبَادَةً خَالِصَةً لِلَّهِ، وَاللهُ تَعَالَى لَا يَقْبَلُ إِلَّا مَا كَانَ خَالِصًا مِنَ الْحُظُوظِ وَالشَّوَائِبِ.

أَقُولُ: وَقَدْ وَرَدَ عَلَى لِسَانِ الشَّارِعِ تَسْمِيَةُ مِثْلِ هَذَا الْعَمَلِ شِرْكًا، فَفِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ ((قَالَ اللهُ تَعَالَى: أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ - إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أُتِيَ بِصُحُفٍ مُخَتَّمَةٍ فَتَنْصَبُّ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ تَعَالَى فَيَقُولُ اللهُ لِمَلَائِكَتِهِ: اقْبَلُوا هَذَا وَأَلْقُوا هَذَا، فَتَقُولُ الْمَلَائِكَةُ: وَعَزَّتِكَ مَا رَأَيْنَا إِلَّا خَيْرًا، فَيَقُولُ: نَعَمْ لَكِنْ كَانَ لِغَيْرِي، وَلَا أَقْبَلُ الْيَوْمَ إِلَّا مَا ابْتُغِيَ بِهِ وَجْهِي)) وَفِي رِوَايَةٍ يَقُولُونَ: ((مَا كَتَبْنَا إِلَّا مَا عَمِلَ)) إِلَخْ، وَفِي حَدِيثِ أَحْمَدَ وَالتِّرْمِذِيِّ وَابْنِ مَاجَهْ ((إِذَا جَمَعَ اللهُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ نَادَى مُنَادٍ: مَنْ كَانَ أَشْرَكَ فِي عَمَلٍ عَمِلَهُ لِلَّهِ أَحَدًا فَلْيَطْلُبْ ثَوَابَهُ مِنْ عِنْدِهِ ; فَإِنَّ اللهَ أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ)) .

وَإِنَّمَا يَظْهَرُ تَأْوِيلُ مِثْلِ هَذَا فِيمَنْ قَصَدَ الْعِبَادَةَ وَالْأَجْرَ مَعًا، بِحَيْثُ لَوْ لَمْ يُسْتَأْجَرْ لِلْقِرَاءَةِ (مَثَلًا) لَقَرَأَ. وَأَمَّا مَنْ لَا يَقْصِدُ إِلَّا الْأُجْرَةَ، فَإِذَا لَمْ تَكُنْ لَا يَقْرَأُ تِلْكَ الْخَتْمَةَ أَوِ الْعَدَدَ مِنَ السُّوَرِ أَوِ الذِّكْرِ فَأَمْرُهُ أَقْبَحُ، وَذَنْبُهُ أَكْبَرُ، وَعَمَلُهُ بَاطِلٌ لَا يُعْتَدُّ بِهِ شَرْعًا، فَدَافِعُ الْأَجْرِ عَلَيْهِ خَاسِرٌ لِمَالِهِ، وَآخِذُهُ مِنْهُ خَاسِرٌ لِمَآلِهِ، وَمِثْلُ قَصْدِ الْأُجْرَةِ الْمَالِيَّةِ الرِّيَاءُ ; فَإِنَّهُ مَنْفَعَةٌ مَعْنَوِيَّةٌ.

وَقَدْ فَرَّقَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ بَيْنَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَتَعْلِيمِهِ، فَأَجَازَ أَخْذَ الْأُجْرَةِ عَلَى

تَعْلِيمِهِ كَتَعْلِيمِ الْعِلْمِ ; لِأَنَّ الِاشْتِغَالَ بِالتَّعْلِيمِ يَصُدُّ عَنِ التَّفَرُّغِ لِلْكَسْبِ مِنَ الْوُجُوهِ الْأُخْرَى، فَإِذَا لَمْ نَجْزِ الْمُعَلِّمَ يَتَعَسَّرُ عَلَيْنَا أَنْ نَجِدَ مَنْ يَتَصَدَّى لِتَعْلِيمِ الْأَوْلَادِ، وَلَيْسَ زَمَنُنَا كَزَمَانِ السَّلَفِ يَتَفَرَّغُ فِيهِ النَّاسُ لِنَشْرِ الْعِلْمِ وَإِفَادَتِهِ تَعَبُّدًا لِلَّهِ وَتَقَرُّبًا إِلَيْهِ.

قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: مَنْ عَلَّمَ الْعِلْمَ وَالدِّينَ بِالْأُجْرَةِ فَهُوَ كَسَائِرِ الصُّنَّاعِ وَالْأُجَرَاءِ، لَا ثَوَابَ لَهُ عَلَى أَصْلِ الْعَمَلِ بَلْ عَلَى إِتْقَانِهِ وَالْإِخْلَاصِ فِيهِ وَالنُّصْحِ فِيهِ وَالنُّصْحِ لِمَنْ يُعَلِّمُهُمْ. وَأَذْكُرُ أَنَّنِي سَمِعْتُهُ فِي وَقْتٍ آخَرَ يَقُولُ: يَنْبَغِي لِلْمُعَلِّمِ الَّذِي يُعْطَى رَاتِبًا مِنَ الْأَوْقَافِ الْخَيْرِيَّةِ أَنْ يَأْخُذَ إِذَا كَانَ مُحْتَاجًا لِأَجْلِ سَدِّ الْحَاجَةِ لَا بِقَصْدِ الْأُجْرَةِ عَلَى التَّعْلِيمِ، وَبِذَلِكَ يَكُونُ عَابِدًا لِلَّهِ تَعَالَى بِالتَّعْلِيمِ نَفْسِهِ، وَعَلَامَتُهُ أَنْ يَسْتَعْفِفَ إِذَا هُوَ اسْتَغْنَى، فَلَا يَأْخُذُ مِنَ الْوَقْفِ شَيْئًا.

<<  <  ج: ص:  >  >>