يُنَفَّذُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَإِنْ كَانَ الشُّهُودُ زُورًا، وَأَنَّ حُكْمَهُ بِالْمَالِ لَا يُنَفَّذُ إِلَّا ظَاهِرًا فَلَا يَحِلُّ لِلْمَحْكُومِ لَهُ تَنَاوُلُهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ.
وَأَزِيدُ الْمَسْأَلَةَ وُضُوحًا بِالتَّمْثِيلِ فَأَقُولُ: يَعْنِي أَنَّ الْقَاضِيَ إِذَا حَكَمَ بِفَسْخِ النِّكَاحِ أَوِ التَّفْرِيقِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ بِشَهَادَةِ زُورٍ حَرُمَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَعِيشَا مَعًا عِيشَةَ الْأَزْوَاجِ، وَإِذَا شَهِدَ شُهُودُ الزُّورِ بِأَنَّ فُلَانًا عَقَدَ عَلَى فُلَانَةٍ وَحَكَمَ الْقَاضِي بِصِحَّةِ الْعَقْدِ حَلَّ لِلرَّجُلِ الْمَحْكُومِ لَهُ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا بِغَيْرِ عَقْدٍ اكْتِفَاءً بِحُكْمِ الْقَاضِي الَّذِي يَعْلَمُ أَنَّهُ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَدْ نَقَلَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ أَنَّ الشَّافِعِيَّ حَكَى الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ لَا يُحَلِّلُ الْحَرَامَ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ عَلَيْهِ الْجُمْهُورَ وَمِنْهُمْ صَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ فَلَمْ يُخَالِفَاهُ إِلَّا لِأَنَّهُ ظَهَرَ لَهُمَا قُوَّةُ دَلِيلِ الْجُمْهُورِ، وَمِنْهُ حَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ عِنْدَ الْجَمَاعَةِ:
مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَالشَّيْخَيْنِ وَأَصْحَابِ السُّنَنِ، وَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ((إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضُكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَأَقْضِيَ لَهُ بِنَحْوِ مَا أَسْمَعُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا فَلَا يَأْخُذْهُ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ)) وَرُوِيَ بِلَفْظٍ آخَرَ بِمَعْنَاهُ. وَالْمُنْتَصِرُونَ لِأَبِي حَنِيفَةَ يَقْصُرُونَ الْأَمْرَ عَلَى الْأَمْوَالِ ; لِأَنَّهَا الْمَوْضُوعُ الَّذِي وَرَدَتْ فِيهِ الْآيَةُ وَالْحَدِيثُ كَمَا تَرَاهُ فِي لَفْظِ الْحَدِيثِ، وَلِبَعْضِهِمْ فِيهِمَا مِنَ التَّحْرِيفِ مَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُحْكَى، وَرَدَّ الْجُمْهُورُ ذَلِكَ بِالْقَاعِدَةِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا، وَهِيَ أَنَّ الْأَبْضَاعَ أَوْلَى بِالِاحْتِيَاطِ مِنَ الْأَمْوَالِ، فَإِنْ لَمْ يَتَنَاوَلْهَا النَّصُّ بِلَفْظِهِ تَنَاوَلَهَا بِعِلَّتِهِ بِالْأَوْلَى. وَفِي الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ عِبْرَةٌ لِوُكَلَاءِ الدَّعَاوَى الَّذِينَ يُدْعَوْنَ بِالْمُحَامِينَ، فَلَا يَجُوزُ لِمَنْ يُؤْمِنُ مِنْهُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَقْبَلَ الْوَكَالَةَ فِي دَعْوَى يَعْتَقِدُ أَنَّ صَاحِبَهَا مُبْطِلٌ، وَلَا أَنْ يَسْتَمِرَّ فِي مُحَاوَلَةِ إِثْبَاتِهَا إِذَا ظَهَرَ لَهُ بُطْلَانُهَا فِي أَثْنَاءِ التَّقَاضِي. وَإِنَّنَا نَرَاهُمْ يَعْتَمِدُونَ عَلَى خَلَابَتِهِمْ فِي الْقَوْلِ وَلَحْنِهِمْ فِي الْخِطَابِ (وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) (٢: ٢٦٩) .
وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ فِي الْآيَةِ أَنَّ الْإِدْلَاءَ بِمَعْنَى الْإِلْقَاءِ، وَقَالُوا: إِنَّهُ فِي الْأَصْلِ إِلْقَاءُ الدَّلْوِ، وَاخْتِيرَ هَذَا التَّعْبِيرُ لِأَنَّهُ يُشْعِرُ بِعَدَمِ الرَّوِيَّةِ، هَذَا مَا اقْتَصَرَ عَلَيْهِ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ، وَفِي التَّفْسِيرِ الْكَبِيرِ لِلْإِمَامِ الرَّازِيِّ: إِلْقَاءُ الدَّلْوِ يُرَادُ بِهِ إِخْرَاجُ الْمَاءِ، وَإِلْقَاءُ الْمَالِ إِلَى الْحُكَّامِ يُرَادُ بِهِ الْحُكْمُ لِلْمُلْقِي، وَذَكَرَ وَجْهًا آخَرَ بَعِيدًا. وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (بِهَا) قِيلَ: إِنَّهُ يَرْجِعُ إِلَى الْأَمْوَالِ وَالْمَعْنَى لَا تُلْقُوهَا إِلَيْهِمْ بِالرِّشْوَةِ، وَقَالُوا: إِنَّ الرِّشْوَةَ رِشَاءُ الْحَكَمِ، وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ وَلَا تُلْقُوا بِحُكُومَةِ الْأَمْوَالِ إِلَى الْحُكَّامِ، وَالْفَرِيقُ مِنَ الشَّيْءِ: الْجُمْلَةُ وَالطَّائِفَةُ مِنْهُ، وَالْإِثْمُ: فَسَّرَهُ بَعْضُهُمْ بِشَهَادَةِ الزُّورِ، وَبَعْضُهُمْ بِالْيَمِينِ الْفَاجِرَةِ، وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنْ صَحَّ مَا ذَكَرُوهُ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ، وَهُوَ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ مَرَاسِيلِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ((أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ أَشْوَعَ الْحَضْرَمِيَّ وَامْرَأَ الْقَيْسِ بْنَ عَابِسٍ اخْتَصَمَا فِي أَرْضٍ وَلَمْ تَكُنْ بَيِّنَةٌ، فَحَكَمَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنْ يَحْلِفَ امْرُؤُ الْقَيْسِ، فَهَمَّ بِهِ، فَنَزَلَتْ)) وَالْمُرَادُ بِالْعِلْمِ فِي قَوْلِهِ:
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute