للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

نُزُولِهَا، وَهُوَ إِبَاحَةُ الْقِتَالِ لِلْمُسْلِمِينَ فِي الْإِحْرَامِ بِالْبَلَدِ

الْحَرَامِ وَالشَّهْرِ الْحَرَامِ إِذَا بَدَأَهُمُ الْمُشْرِكُونَ بِذَلِكَ، وَأَلَّا يُبْقُوا عَلَيْهِمْ إِذَا نَكَثُوا عَهْدَهُمْ وَاعْتَدَوْا فِي هَذِهِ الْمَرَّةِ، وَحُكْمُهَا بَاقٍ مُسْتَمِرٌّ لَا نَاسِخَ وَلَا مَنْسُوخَ ; فَالْكَلَامُ فِيهَا مُتَّصِلٌ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ فِي وَاقِعَةٍ وَاحِدَةٍ فَلَا حَاجَةَ إِلَى تَمْزِيقِهِ، وَلَا إِلَى إِدْخَالِ آيَةِ بَرَاءَةٌ فِيهِ، وَقَدْ نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسِ أَنَّهُ لَا نَسْخَ فِيهَا، وَمَنْ حَمَلَ الْأَمْرَ بِالْقِتَالِ فِيهَا عَلَى عُمُومِهِ - وَلَوْ مَعَ انْتِفَاءِ الشَّرْطِ - فَقَدْ أَخْرَجَهَا عَنْ أُسْلُوبِهَا وَحَمَّلَهَا مَا لَا تَحْمِلُ.

وَآيَاتُ سُورَةِ آلَ عِمْرَانَ نَزَلَتْ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ هُمُ الْمُعْتَدِينَ. وَآيَاتُ الْأَنْفَالِ نَزَلَتْ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ الْكُبْرَى وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ هُمُ الْمُعْتَدِينَ أَيْضًا. وَكَذَلِكَ آيَاتُ سُورَةِ بَرَاءَةٌ نَزَلَتْ فِي نَاكِثِي الْعَهْدِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَلِذَلِكَ قَالَ: (فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ) (٩: ٧) وَقَالَ بَعْدَ ذِكْرِ نِكْثِهِمْ: (أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) (٩: ١٣) الْآيَاتِ.

كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَبْدَءُونَ الْمُسْلِمِينَ بِالْقِتَالِ لِأَجْلِ إِرْجَاعِهِمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَلَوْ لَمْ يَبْدَءُوا فِي كُلِّ وَاقِعَةٍ لَكَانَ اعْتِدَاؤُهُمْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ مِنْ بَلَدِهِ وَفِتْنَةُ الْمُؤْمِنِينَ وَإِيذَاؤُهُمْ وَمَنْعُ الدَّعْوَةِ - كُلُّ ذَلِكَ كَافِيًا فِي اعْتِبَارِهِمْ مُعْتَدِينَ، فَقِتَالُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُلُّهُ كَانَ مُدَافَعَةً عَنِ الْحَقِّ وَأَهْلِهِ وَحِمَايَةً لِدَعْوَةِ الْحَقِّ ; وَلِذَلِكَ كَانَ تَقْدِيمُ الدَّعْوَةِ شَرْطًا لِجَوَازِ الْقِتَالِ ; وَإِنَّمَا تَكُونُ الدَّعْوَةُ بِالْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ لَا بِالسَّيْفِ وَالسِّنَّانِ، فَإِذَا مُنِعْنَا مِنَ الدَّعْوَةِ بِالْقُوَّةِ بِأَنْ هُدِّدَ الدَاعِي أَوْ قُتِلَ فَعَلَيْنَا أَنْ نُقَاتِلَ لِحِمَايَةِ الدُّعَاةِ وَنَشْرِ الدَّعْوَةِ لَا لِلْإِكْرَاهِ عَلَى الدِّينِ ; فَاللهُ تَعَالَى يَقُولُ: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) (٢: ٢٥٦) وَيَقُولُ: (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) (١٠: ٩٩) وَإِذَا لَمْ يُوجَدُ مَنْ يَمْنَعُ الدَّعْوَةَ وَيُؤْذِي الدُّعَاةَ أَوْ يَقْتُلُهُمْ أَوْ يُهَدِّدُ الْأَمْنَ وَيَعْتَدِي عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، فَاللهُ تَعَالَى لَا يَفْرِضُ عَلَيْنَا الْقِتَالَ ; لِأَجْلِ سَفْكِ الدِّمَاءِ وَإِزْهَاقِ الْأَرْوَاحِ، وَلَا لِأَجْلِ الطَّمَعِ فِي الْكَسْبِ.

وَلِقَدْ كَانَتْ حُرُوبُ الصَّحَابَةِ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ لِأَجْلِ حِمَايَةِ الدَّعْوَةِ وَمَنْعِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ تَغَلُّبِ الظَّالِمِينَ لَا لِأَجْلِ الْعُدْوَانِ، فَالرُّومُ كَانُوا يَعْتَدُونَ عَلَى حُدُودِ

الْبِلَادِ الْعَرَبِيَّةِ الَّتِي دَخَلَتْ حَوْزَةَ الْإِسْلَامِ وَيُؤْذُونَهُمْ، وَأَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْعَرَبِ الْمُتَنَصِّرَةِ يُؤْذُونَ مَنْ يُظَنُّ بِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ.

وَكَانَ الْفُرْسُ أَشَدَّ إِيذَاءً لِلْمُؤْمِنِينَ فَقَدْ مَزَّقُوا كِتَابَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَفَضُوا دَعْوَتَهُ وَهَدَّدُوا رَسُولَهُ وَكَذَلِكَ كَانُوا يَفْعَلُونَ، وَمَا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ الْفُتُوحَاتِ الْإِسْلَامِيَّةِ اقْتَضَتْهُ طَبِيعَةُ الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ كُلُّهُ مُوَافِقًا لِأَحْكَامِ الدِّينِ، فَإِنَّ مِنْ طَبِيعَةِ الْكَوْنِ أَنْ يَبْسُطَ الْقَوِيُّ

<<  <  ج: ص:  >  >>