للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَقَالَتِ الْحَنَفِيَّةُ: يَبْعَثُ بِهِ إِلَى الْحَرَمِ وَيَجْعَلُ لِلْمَبْعُوثِ بِيَدِهِ يَوْمَ أَمَارَةٍ، فَإِذَا جَاءَ الْيَوْمُ وَغَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ ذَبَحَ تَحَلَّلَ.

ثُمَّ قَالَ: (وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) الدُّخُولُ فِي الْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ يَكُونُ بِالْإِحْرَامِ، وَهُوَ نِيَّةُ النُّسُكِ عِنْدَ الِابْتِدَاءِ بِهِ بِالتَّلْبِيَةِ وَلُبْسِ غَيْرِ الْمَخِيطِ مِنْ إِزَارٍ وَرِدَاءٍ مَعَ كَشْفِ الرَّأْسِ لِلرَّجُلِ وَلُبْسِ النَّعْلَيْنِ الْعَرَبِيَّيْنِ، وَالْخُرُوجِ مِنْهُمَا - وَيُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْإِحْلَالِ وَالتَّحَلُّلِ - يَكُونُ بِحَلْقِ الرَّأْسِ أَوْ تَقْصِيرِ شِعْرِهِ، فَالنَّهْيُ عَنِ الْحَلْقِ هُنَا عِبَارَةٌ عَنِ النَّهْيِ عَنِ الْإِحْلَالِ قَبْلَ بُلُوغِ الْهَدْيِ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي يَحِلُّ ذَبْحُهُ فِيهِ وَهُوَ فِي حَالِ الْإِحْصَارِ حَيْثُ يَحْصُرُ الْحَاجُّ وَإِلَّا فَالْكَعْبَةُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ) (٥: ٩٥) وَقَوْلُهُ: (ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) (٢٢: ٣٣) وَاسْتَدَلَّ الْحَنَفِيَّةُ بِهَذَا عَلَى عَدَمِ جَوَازِ نَحْرِ الْهَدْيِ فِي مَحِلِّ الْإِحْصَارِ، وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ فِعْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحُدَيْبِيَةِ، وَأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْهَدْيِ أَنْ يَبْلُغَ الْكَعْبَةَ ; لِأَنَّهُ مُهْدًى إِلَيْهَا، وَحَالُ الْإِحْصَارِ حَالُ ضَرُورَةٍ وَلَا سِيَّمَا إِحْصَارُ السَّنَةِ الَّتِي أُنْزِلَتْ فِيهَا الْآيَةُ، فَقَدْ كَانَتِ الْكَعْبَةُ فِي أَيْدِي الْمُشْرِكِينَ، فَلَا يُعْقَلُ أَنْ يَأْمُرَ اللهُ تَعَالَى بِإِرْسَالِ الْهَدْيِ إِلَيْهَا فَيَكُونُ غَنِيمَةً لَهُمْ، عَلَى أَنَّ إِبْلَاغَهُ مَحِلَّهُ فِي حَالِ الْإِحْصَارِ يَكُونُ مُتَعَذِّرًا أَوْ مُتَعَسِّرًا، فَكَيْفَ يَتَوَقَّفُ الْإِحْلَالُ عَلَيْهِ؟ ثُمَّ إِنَّ اكْتِفَاءَهُمْ بِذَبْحِهِ فِي أَدْنَى مَكَانٍ مِنْ أَرْضِ الْحَرَمِ لَا يَنْطَبِقُ عَلَى الْآيَتَيْنِ النَّاطِقَتَيْنِ بِبُلُوغِهِ الْكَعْبَةَ وَالْبَيْتَ الْعَتِيقَ، وَقَوْلُهُمْ: إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَبْحَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ فِي أَوَّلِ الْحَرَمِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ، فَجُمْهُورُ أَهْلِ النَّقْلِ عَلَى خِلَافِهِ، ثُمَّ إِنَّهُمُ احْتَاجُوا فِي تَصْحِيحِ قَوْلِهِمْ إِلَى تَقْدِيرِ الْعِلْمِ ; أَيْ: حَتَّى تَعْلَمُوا أَنَّ الْهَدْيَ بَلَغَ مَحِلَّهُ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى تَقْدِيرٍ عَلَى رَأْيِ الْجُمْهُورِ.

وَاسْتَدَلَّ الْجُمْهُورُ بِالِاقْتِصَارِ عَلَى الْهَدْيِ فِي مَقَامِ الْبَيَانِ عَلَى أَنَّ الْقَضَاءَ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَى الْمُحْصَرِ، وَقَالَتِ الْحَنَفِيَّةُ: يَجِبُ قَضَاءُ الْعُمْرَةِ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَاهَا بِأَصْحَابِهِ وَسُمِّيَتْ عُمْرَةَ الْقَضَاءَ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: سُمِّيَتْ عُمْرَةَ الْقَضَاءِ، وَالْقَضِيَّةِ لِلْمُقَاضَاةِ الَّتِي وَقَعَتْ بَيْنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَيْنَ قُرَيْشٍ لَا عَلَى أَنَّهُ أَوْجَبَ عَلَيْهِمْ قَضَاءَ تِلْكَ الْعُمْرَةِ، وَالْهَدْيُ: جَمْعُ هَدِيَّةٍ كَجَدْيٍ وَجَدِيَّةٍ وَالْمَحِلُّ - بِكَسْرِ الْحَاءِ - اسْمُ مَكَانٍ مِنْ حَلَّ يَحِلُّ حِلًّا ; أَيْ: صَارَ حَلَالًا، ضِدُّ حَرُمَ يَحْرُمُ إِذَا صَارَ حَرَامًا.

ثُمَّ ذَكَرَ حُكْمَ مَنْ يُؤْذِيهِ عَدَمُ الْحَلْقِ فَقَالَ: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا)

مَرَضًا يَنْفَعُهُ فِيهِ الْحَلْقُ وَيَضُرُّهُ عَدَمُهُ (أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ) كَقَمْلٍ أَوْ جُرْحٍ (فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) أَيْ: فَعَلَيْهِ إِنْ حَلَقَ فَدِيَةٌ مِنْ هَذِهِ الْأَجْنَاسِ الثَّلَاثَةِ عَلَى التَّخْيِيرِ، أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ قَالَ: وَقَفَ عَلَيَّ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْحُدَيْبِيَةِ وَرَأْسِي يَتَهَافَتُ قَمْلًا فَقَالَ: يُؤْذِيكَ هَوَامُكَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: فَاحْلِقْ رَأْسَكَ. قَالَ: فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَذَكَرَهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((صُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ أَوْ تَصَدَّقْ بِفَرَقٍ بَيْنَ سِتَّةٍ

<<  <  ج: ص:  >  >>