للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فَيَسْتَحِيلُ أَنْ يُطْلَقَ فِي مَقَامِ بَيَانِ الْأَحْكَامِ الْقَوْلُ فِي نَفْيِ شَيْءٍ بِصِيغَةِ الْإِثْبَاتِ، كَمَا قَدَّرَ بَعْضُهُمُ النَّفْيَ فِي قَوْلِهِ: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ) (٢: ١٨٤) .

ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ التَّمَتُّعَ بِالْعُمْرَةِ مَضْمُومَةً إِلَى الْحَجِّ أَوْ إِلَى وَقْتِ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ وَمَا يَتْبَعُهُ مِنَ الْأَحْكَامِ خَاصٌّ بِالْآفَاقِيِّينَ دُونَ أَهْلِ الْحَرَمِ فَقَالَ: (ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) وَذَلِكَ أَنَّ أَهْلَ الْآفَاقِ هُمُ الَّذِينَ يَحْتَاجُونَ إِلَى هَذَا التَّمَتُّعِ لِمَا يَلْحَقُهُمْ مِنَ الْمَشَقَّةِ بِالسَّفَرِ إِلَى الْحَجِّ وَحْدَهُ ثُمَّ السَّفَرِ إِلَى الْعُمْرَةِ وَحْدَهَا، هَذَا مَا اخْتَارَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ وَعَلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ، فَلَا مُتْعَةَ وَلَا قِرَانَ عِنْدِهِمْ لِحَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَقَالَ غَيْرُهُمْ كَالشَّافِعِيَّةِ: إِنَّ الْإِشَارَةَ إِلَى أَقْرَبِ مَذْكُورٍ وَهُوَ الْجَزَاءُ عَلَى التَّمَتُّعِ مِنَ الْهَدْيِ أَوْ بَدَلِهِ ; لِأَنَّ الْآفَاقِيَّ إِذَا تَمَتَّعَ يُحْرِمُ بِالْحَجِّ مِنْ مَكَّةَ لَا مِنَ الْمِيقَاتِ فَيَكُونُ حَجُّهُ نَاقِصًا يُجْبَرُ بِالْهَدْيِ أَوْ بَدَلِهِ إِذَا لَمْ يَجِدْهُ، وَلَعَلَّ وَجْهَ الِاخْتِيَارِ التَّعْبِيرَ

بِاللَّامِ الْمُفِيدَةِ أَنَّ التَّمَتُّعَ رُخْصَةٌ دُونَ ((عَلَى)) الْمُفِيدَةِ لِلْجَزَاءِ. وَحُضُورُ الْأَهْلِ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ كِنَايَةٌ عَنِ الْإِقَامَةِ فِي أَرْضِ الْحَرَمِ، وَقَالَ (الْجَلَالُ) : وَالْأَهْلُ كِنَايَةٌ عَنِ النَّفْسِ، وَمَا قُلْنَاهُ فِي الْكِنَايَةِ أَظْهَرُ وَالْعِبَارَةُ تَشْمَلُ مَنْ لَا أَهْلَ لَهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَالْمُتَبَادَرُ أَنَّ أَهْلَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ هُمْ أَهْلُ مَكَّةَ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ غَيْرُهُمْ، وَعَلَيْهِ مَالِكٌ، وَقَالَ طَاوُسٌ: هُمْ أَهْلُ الْحِلِّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ: هُمْ مَنْ وَرَاءَ الْمِيقَاتِ، وَالشَّافِعِيُّ: هُمْ مَنْ كَانَ عَلَى مَرْحَلَتَيْنِ مِنْ مَكَّةَ ; أَيْ: مَسَافَةِ الْقَصْرِ عِنْدَهُ.

ثُمَّ خَتَمَ الْآيَةَ بِالْأَمْرِ بِتَقْوَى اللهِ الْمَقْصُودَةِ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ وَنَهْيٍ وَالْإِعْلَامِ بِشِدَّةِ عُقُوبَتِهِ لِمَنْ لَمْ يَتَّقِهِ فَقَالَ: (وَاتَّقُوا اللهَ) بِالْمُحَافَظَةِ عَلَى امْتِثَالِ هَذِهِ الْأُمُورِ وَالنَّوَاهِي وَغَيْرِهَا مِنْ ضُرُوبِ الْهِدَايَةِ الَّتِي فِيهَا سَعَادَتُكُمْ (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) بِمَا جَعَلَ عَاقِبَةَ التَّفْرِيطِ وَالْإِضَاعَةِ شَدِيدَةً عَلَى الْمُفَرِّطِينَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَإِذَا عَلِمْتُمْ ذَلِكَ عِلْمًا صَحِيحًا رُجِيَ لَكُمُ الِاسْتِمْسَاكُ بِحَبْلِ التَّقْوَى وَكُنْتُمْ مِنَ الْمُفْلِحِينَ، وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى صِحَّةِ عِلْمٍ بِسِرِّ وَعِيدِ اللهِ تَعَالَى بِأَنْ ظَنَّ أَنَّهُ تَعَالَى يُخْلِفُهُ وَإِنْ لَمْ يَتُبْ وَيَتَّقِ صَاحِبُهُ فَهُوَ مِنَ الْخَاسِرِينَ.

ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ حُكْمَ التَّمَتُّعِ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الْحَرَمِيَّ فِيهِ لَيْسَ كَالْآفَاقِيِّ، وَيُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ هُنَاكَ حَجًّا وَاعْتِمَارًا عَلَى غَيْرِ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ، وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ الْحَجَّ مَعَ الْعُمْرَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ ضُرُوبٍ نَذْكُرُهَا هُنَا لِإِفَادَةِ مَنْ لَمْ يَقْرَأِ الْفِقْهَ، أَوْ لِمَنْ لَا يَعْرِفُ فِيهَا إِلَّا مَا قَالَهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ وَهِيَ: التَّمَتُّعُ، وَالْإِفْرَادُ، وَالْقِرَانُ، وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي أَفْضَلِهَا لِتَعَارُضِ الْأَحَادِيثِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ ; أَيُّ الضُّرُوبِ كَانَتْ، فَالتَّمَتُّعُ: أَنْ يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فَيُتِمَّهَا وَيَتَحَلَّلَ ثُمَّ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ مِنْ مَكَّةَ أَوْ مِنْ قَرِيبٍ مِنْهَا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يُشْتَرَطُ التَّحَلُّلُ فَتَدْخُلُ فِي الْقِرَانِ، وَقَدْ أَشَرْنَا إِلَى الْوَجْهَيْنِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ. وَالْإِفْرَادُ: أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ وَحْدَهُ ثُمَّ يَعْتَمِرَ بَعْدَ أَدَائِهِ، وَالْقِرَانُ: أَنْ يُحْرِمَ بِهِمَا جَمِيعًا، أَوْ يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ ثُمَّ يُدْخِلَ عَلَيْهَا الْحَجَّ أَوِ الْعَكْسُ كَمَا تَقَدَّمَ.

<<  <  ج: ص:  >  >>