يَوْمٍ مِنْهَا إِلَى آخِرِ يَوْمٍ ; بَلْ مَعْنَاهُ أَنَّهُ يَصِحُّ الْإِحْرَامُ بِهِ مِنْ غُرَّةِ أَوَّلِهَا وَتَنْتَهِي أَرْكَانُهُ وَوَاجِبَاتُهُ فِي أَثْنَاءِ آخِرِهَا، فَالْوُقُوفُ فِي التَّاسِعِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ وَبَقِيَّةُ الْمَنَاسِكِ فِي أَيَّامِ الْعِيدِ وَهِيَ يَوْمُ النَّحْرِ، الَّذِي فُسِّرَ بِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ) (٩: ٣) وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ، وَجَوَّزَ بَعْضُ السَّلَفِ تَأْخِيرَ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ إِلَى آخِرِ ذِي الْحِجَّةِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهَا الْأَشْهُرُ الثَّلَاثَةُ وَمِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا، وَيُرْوَى عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ وَعَلَيْهِ مَالِكٌ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهَا شَوَّالٌ وَذُو الْقَعْدَةِ وَعَشْرٌ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَيُرْوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ. وَلَا حُجَّةَ فِي الْآيَةِ لِأَحَدٍ عَلَى تَحْدِيدِهِ، وَالْمُتَبَادَرُ مِنْهَا مَا ذَكَرْنَاهُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (مَعْلُومَاتٌ) إِقْرَارٌ لِمَا كَانَ عَلَيْهِ الْعَرَبُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ أَشْهُرِ الْحَجِّ ; لِأَنَّهُ مَنْقُولٌ بِالتَّوَاتُرِ الْعَمَلِيِّ مِنْ عَهْدِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ - عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَهُوَ يَتَضَمَّنُ بُطْلَانَ النَّسِيءِ فِيهَا، لِأَنَّهُ جَاهِلِيٌّ مَعْرُوفٌ.
وَقَدِ اسْتُدِلَّ بِالْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْإِحْرَامُ بِالْحَجِّ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْأَشْهُرِ، لِأَنَّهُ شُرُوعٌ فِي الْعِبَادَةِ فِي غَيْرِ وَقْتِهَا كَمَنْ يُصَلِّي قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ، وَيُرْوَى عَنْ بَعْضِ عُلَمَاءِ التَّابِعِينَ وَعَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ مِنَ أَئِمَّةِ الْفِقْهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ: إِنَّهُ جَائِزٌ مَعَ الْكَرَاهَةِ. وَمَالُكٌ بِلَا كَرَاهَةٍ.
وَقَدْ بَحَثَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي لَفْظِ الْأَشْهُرِ وَكَوْنِهَا جَمْعَ قِلَّةٍ، وَهَلْ وَرَدَ فِي بَيَانِهَا نَصٌّ أَوْ إِجْمَاعٌ؟
وَأَقُولُ: إِنَّهُ بَحْثٌ لَا وَجْهَ لَهُ، فَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (مَعْلُومَاتٌ) أَنَّهَا هِيَ أَشْهُرُ الْحَجِّ الْمَعْرُوفَةُ لِلْعَرَبِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهَا الثَّلَاثَةُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا،
وَلِذَلِكَ لَمْ يُؤْثَرْ عَنِ الصَّحَابَةِ فِيهَا إِلَّا مَا قِيلَ فِي الثَّالِثِ مِنْهَا: هَلْ تَكُونُ أَيَّامُهُ كُلُّهَا أَيَّامَ حَجٍّ أَمْ تَنْتَهِي أَرْكَانُ الْحَجِّ فِي الْعَاشِرِ مِنْهُ؟
فَالْآيَةُ ظَاهِرَةٌ فِي أَنَّ الْحَجَّ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي هَذِهِ الْأَشْهُرِ، وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ سِرُّ جَعْلِهَا خَبَرًا عَنْهُ، وَلَمَّا كَانَ أَعْظَمُ أَرْكَانِهِ - وَهُوَ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ - يَكُونُ فِي التَّاسِعِ مِنَ الثَّالِثِ عُلِمَ أَنَّ الْحَجَّ لَا يَتَكَرَّرُ فِيهَا، فَمَنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ بَعْدَ هَذَا الْيَوْمِ فَلَا حَجَّ لَهُ. قَالَ تَعَالَى:
(فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ) أَيْ: أَوْجَبَهُ وَأَلْزَمَهُ نَفْسَهُ بِالشُّرُوعِ فِيهِ وَقَدْ مَرَّ بَيَانُ كَيْفِيَّتِهِ (فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ) تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الرَّفَثِ فِي آيَاتِ الصِّيَامِ وَأَنَّهُ كِنَايَةٌ عَنِ الْجِمَاعِ. وَالْفُسُوقُ: الْخُرُوجُ عَنْ حُدُودِ الشَّرْعِ بِأَيِّ فِعْلٍ مَحْظُورٍ، وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهِ الذَّبْحُ لِلْأَصْنَامِ خَاصَّةً، وَخَصَّهُ بَعْضُهُمْ بِالسِّبَابِ وَالتَّنَابُزِ بِالْأَلْقَابِ. وَالْجِدَالُ: قِيلَ هُوَ بِمَعْنَى الْجِلَادِ مِنَ الْجَدَلِ بِمَعْنَى الْقَتْلِ، وَقِيلَ هُوَ الْمِرَاءُ بِالْقَوْلِ، وَهُوَ يَكْثُرُ عَادَةً بَيْنَ الرُّفْقَةِ وَالْخَدَمِ فِي السَّفَرِ ; لِأَنَّ مَشَقَّتَهُ تُضَيِّقُ الْأَخْلَاقَ. هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ.
وَأَقُولُ: إِنَّهُ يَجُوزُ حَمْلُهَا عَلَى جَمِيعِ مَعَانِيهَا الْحَقِيقِيَّةِ وَغَيْرِهَا عَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَابْنِ جَرِيرٍ الْمُخْتَارِ عِنْدَنَا، وَيَكُونُ النَّفْيُ الْمُرَادُ بِهِ النَّهْيُ فِي بَعْضِهَا لِلتَّحْرِيمِ كَالرَّفَثِ بِمَعْنَى الْجِمَاعِ لَا يُفْسِدُ النُّسُكَ، وَفِي بَعْضِهَا الْآخَرِ لِلْكَرَاهَةِ الشَّدِيدَةِ كَالرَّفَثِ بِمَعْنَى الْكَلَامِ الصَّرِيحِ فِي أُمُورِ الْوِقَاعِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي تَفْسِيرِ آيَاتِ الصِّيَامِ إِلَخْ.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ تَفْسِيرَ الْكَلِمَاتِ الثَّلَاثِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُتَنَاسِبًا وَبِحَسَبِ حَالِ