للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

بَعْضُهُمْ وَهُوَ أَنَّ الْخِصَامَ بِمَعْنَى الْجِدَالِ ; أَيْ: وَهُوَ قَوِيُّ الْعَارِضَةِ فِي الْجَدَلِ لَا يُعْجِزُهُ أَنْ يَخْتَلِبَ النَّاسَ وَيَغُشَّهُمْ بِمَا يُظْهِرُ مِنَ الْمَيْلِ إِلَيْهِمْ وَإِسْعَادِهِمْ فِي شُئُونِهِمْ وَمَصَالِحِهِمْ. قَالَ صَاحِبُ هَذَا الْقَوْلِ: فَالْأَوْصَافُ الْمَحْمُودَةُ الَّتِي يَعْتَمِدُ عَلَيْهَا ثَلَاثَةٌ: حُسْنُ الْقَوْلِ بِحَيْثُ يُعْجِبُ السَّامِعَ، وَإِشْهَادُ اللهِ تَعَالَى عَلَى صِدْقِهِ وَحُسْنِ قَصْدِهِ، وَفِي مَعْنَاهُ مَا هُوَ مِنْ ضُرُوبِ التَّأْكِيدِ الَّذِي يَقْبَلُهُ خَالِيَ الذِّهْنِ، وَقُوَّةُ الْعَارِضَةِ فِي الْجَدَلِ الَّتِي يُحَاجُّ بِهَا الْمُنْكَرُ أَوِ الْمُعَارِضُ، وَأَمَّا بَيَانُ سُوءِ حَالِهِ وَفَسَادِ أَعْمَالِهِ، فَهُوَ فِي الْآيَتَيْنِ التَّالِيَتَيْنِ وَقَدْ مَهَّدَ لَهُمَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) وَالتَّمْهِيدُ فِي بِدَايَةِ الْكَلَامِ لِلْمُرَادِ مِنْهُ فِي غَايَتِهِ مِنْ ضُرُوبِ الْبَلَاغَةِ وَأَفْنَانِهَا.

هَذَا الْفَرِيقُ مِنَ النَّاسِ يُوجَدُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ، وَتَخْتَلِفُ الْخَلَابَةُ اللِّسَانِيَّةُ فِي الْأُمَمِ بِاخْتِلَافِ الْأَعْصَارِ، فَفِي بَعْضِ الْأَزْمِنَةِ لَا يَتَيَسَّرُ لِلْوَاحِدِ أَنْ يَغُشَّ بِزُخْرُفِ الْقَوْلِ إِلَّا الْفَرْدَ أَوِ الْأَفْرَادَ الْمَعْدُودِينَ، وَفِي بَعْضِهَا يَتَيَسَّرُ لَهُ أَنْ يَغُشَّ الْأُمَّةَ فِي مَجْمُوعِهَا حَتَّى يُنَكِّلَ بِهَا تَنْكِيلًا وَإِنَّ الْجَرَائِدَ فِي عَصْرِنَا هَذَا قَدْ تَكُونُ طَرِيقًا لِلْغِشِّ الْعَامِّ، كَمَا تَكُونُ طَرِيقًا لِلنُّصْحِ الْعَامِّ، وَإِنَّمَا يَكُونُ تَلْبِيسُهَا سَهْلًا عَلَى مَنْ يُعْجِبُ الْعَامَّةَ قَوْلُهُمْ فِي الْأُمَمِ الَّتِي يَغْلِبُ فِيهَا الْجَهْلُ لَا سِيَّمَا فِي طَوْرِ الِانْتِقَالِ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ ; إِذْ تَخْتَلِفُ ضُرُوبُ الدَّعْوَةِ وَطُرُقُ الْإِرْشَادِ.

وَفِي الْآيَةِ وَجْهٌ آخَرُ ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ وَهُوَ أَنَّ الظَّرْفَ (فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) مُتَعَلِّقٌ بِالْقَوْلِ قَبْلَهُ ; أَيْ: يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ إِذَا تَكَلَّمَ فِي شُئُونِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَأَحْوَالِهَا، وَطُرُقِ جَمْعِ الْمَالِ وَإِحْرَازِ الْجَاهِ فِيهَا ; لِأَنَّ حُبَّهَا قَدْ مَلَكَ عَلَيْهِ أَمْرَهُ، وَالْمَيْلَ إِلَى لَذَّاتِهَا وَشَهَوَاتِهَا قَدِ اسْتَحْوَذَ عَلَى قَلْبِهِ، وَصَارَ هُوَ الْمُصَرِّفُ لِشُعُورِهِ وَلُبِّهِ، فَيَنْطَلِقُ لِسَانُهُ - وَمِثْلُهُ قَلَمُهُ - فِي كُلِّ مَا يَسْتَهْوِي أَصْحَابَ الْجَاهِ وَالْمَالِ، وَيَسْتَمِيلُ أَهْلَ السِّيَادَةِ وَالسُّلْطَانِ، وَلَكِنَّهُ إِذَا تَكَلَّمَ فِي أَمْرِ الدِّينِ جَاءَ بِالْخَطَلِ وَالْحَشْوِ، وَوَقَعَ فِي الْعَسْلَطَةِ وَاللَّغْوِ، فَلَا يَحْسُنُ وَقْعُ قَوْلِهِ فِي السَّمْعِ، وَلَا يَكُونُ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي النَّفْسِ

وَذَلِكَ أَنَّ رُوحَ الْمُتَكَلِّمِ تَتَجَلَّى فِي قَوْلِهِ، وَضَمِيرِهِ الْمَكْنُونِ يَظْهَرُ فِي لَحْنِهِ (وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ) (٤٧: ٣٠) .

<<  <  ج: ص:  >  >>