مَا يَهْوَوْنَ مِنَ الْإِفْسَادِ وَالظُّلْمِ، وَإِذَا كَانَ هَذَا شَأْنُ أَكْثَرِ الْمُلُوكِ وَالْأُمَرَاءِ الَّذِينَ يُنْسَبُونَ إِلَى الدِّينِ وَيَدَّعُونَ اتِّبَاعَهُ، فَهَلْ تَجِدُ دَعْوَى فِرْعَوْنَ الْأُلُوهِيَّةَ غَرِيبًا عَجِيبًا؟ !
وَحَمْلُ التَّوَلِّي عَلَى الْوَجْهِ الْآخَرِ لَا يَتَنَافَى مَعَ أَخْذِ الْعِزَّةِ بِالْإِثْمِ مِنْ جَرَّاءِ الْأَمْرِ بِالتَّقْوَى، فَإِنَّ فِي طَبْعِ كُلِّ مُفْسِدٍ النُّفُورَ مِمَّنْ يَأْمُرُهُ بِالصَّلَاحِ وَالِاحْتِمَاءَ عَلَيْهِ; لِأَنَّهُ يَرَى أَمْرَهُ بِالتَّقْوَى وَالْخَيْرِ تَشْهِيرًا بِهِ، وَصَرْفًا لِعُيُونِ النَّاسِ إِلَى مَفَاسِدِهِ الَّتِي يَسْتُرُهَا بِزُخْرُفِ الْقَوْلِ وَخِلَابَتِهِ، وَلَكِنَّ التَّعْبِيرَ أَظْهَرُ فِي إِرَادَةِ الْوُلَاةِ وَالسَّلَاطِينِ. وَقَدْ يَبْلُغُ نُفُورُ الْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ مِنَ الْحَقِّ وَالدَّاعِينَ إِلَى الْخَيْرِ إِلَى حَدِّ اسْتِثْقَالِهِمْ وَالْحِقْدِ عَلَيْهِمْ، وَالسَّعْيِ فِي إِيذَائِهِمْ وَإِنْ لَمْ يَأْمُرُوهُمْ بِذَلِكَ ; إِذْ يَرَوْنَ أَنَّ الدَّعْوَةَ إِلَى الْخَيْرِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ - عَلَى إِطْلَاقِهِمَا - كَافِيَانِ فِي فَضِيحَتِهِمْ، وَذَاهِبَانِ بِخِلَابَتِهِمْ، فَلَا يُطِيقُونَ رُؤْيَةَ دُعَاةِ الْخَيْرِ وَلَا يَرْتَاحُونَ إِلَى ذِكْرِهِمْ، بَلْ يَتَتَبَّعُونَ عَوْرَاتِهِمْ وَعَثَرَاتِهِمْ لِيُوقِعُوا بِهِمْ وَيُنَفِّرُوا النَّاسَ عَنْ دَعْوَتِهِمْ، فَإِنْ لَمْ يَظْفَرُوا بِزَلَّةٍ ظَاهِرَةٍ الْتَمَسُوهَا بِالتَّحْرِيفِ وَالتَّأَوُّلِ، أَوِ الِاخْتِرَاعِ وَالتَّقَوُّلِ; وَلِذَلِكَ تَجِدُ طَعْنَ الْمُفْسِدِينَ فِي الْأَئِمَّةِ الْمُصْلِحِينَ مِنْ قَبِيلِ طَعْنِ الْكَافِرِينَ فِي الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ، إِنَّ فُلَانًا مَغْرُورٌ لَا يُعْجِبُهُ أَحَدٌ، خَطَّأَ جَمِيعَ النَّاسِ، وَصَفَهُمْ بِالضَّلَالِ، سَفَّهَ أَحْلَامَهُمْ، شَنَّعَ عَلَى أَعْمَالِهِمْ، فَرَّقَ بَيْنَهُمْ، وَمَا أَشْبَهَ هَذَا.
هَذِهِ آثَارُ الْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنِ الْإِيقَاعِ بِالْآمِرِ بِالتَّقْوَى، وَإِنْ قَدَرُوا حَبَسُوا وَضَرَبُوا، وَنَفَوْا وَقَتَّلُوا، وَلِذَلِكَ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ فِيمَنْ يَأْنَفُ مِنَ الْأَمْرِ بِالتَّقْوَى: (فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ) أَيْ: هِيَ مَصِيرُهُ، وَكَفَاهُ عَذَابُهَا جَزَاءً عَلَى كِبْرِيَائِهِ وَحَمِيَّتِهِ الْجَاهِلِيَّةِ. ثُمَّ وَصَفَ جَهَنَّمَ، وَهِيَ دَارُ الْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ، بِقَوْلِهِ: (وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ) الْمِهَادُ: الْفِرَاشُ يَأْوِي إِلَيْهِ الْمَرْءُ لِلرَّاحَةِ، وَاللَّامُ وَاقِعَةٌ فِي جَوَابِ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ، فَاللهُ تَعَالَى يُقْسِمُ تَأْكِيدًا لِلْوَعِيدِ بِأَنَّ الَّذِي يَرَى عِزَّتَهُ مَانِعَةً لَهُ عَنِ الْإِذْعَانِ لِلْأَمْرِ بِتَقْوَى اللهِ
سَيَكُونُ مِهَادُهُ وَمَأْوَاهُ النَّارَ، وَهِيَ بِئْسَ الْمِهَادُ وَشَرُّهُ، لَا رَاحَةَ فِيهَا، وَلَا اطْمِئْنَانَ لِأَهْلِهَا. وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّهُ عَبَّرَ بِالْمِهَادِ الَّذِي هُوَ مَظِنَّةُ الرَّاحَةِ لِلتَّهَكُّمِ.
وَأَنْتَ تَرَى مِنْ هَذَا التَّقْرِيرِ وَمِنْ كَوْنِ التَّقْسِيمِ حَقِيقِيًّا فِي نَفْسِهِ شَارِحًا لِمَا عَلَيْهِ الْبَشَرُ فِي حَيَاتِهِمْ مُتَّصِلًا بِمَا قَبْلَهُ مُلْتَئِمًا مَعَهُ فِي السِّيَاقِ أَنَّ الْكَلَامَ عَامٌّ، وَمَا رُوِيَ مِنْ أَنَّ لَهُ سَبَبًا خَاصًّا لَا يُنَافِي عُمُومَهُ. وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي السَّبَبِ لِلْآيَاتِ فَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدٍ أَوْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي رَجُلَيْنِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ قَالَا - لَمَّا هَلَكَتْ سَرِيَّةٌ لِلْمُسْلِمِينَ -: يَا وَيْحَ هَؤُلَاءِ الْمَفْتُونِينَ الَّذِينَ هَلَكُوا، لَا هُمْ قَعَدُوا فِي أَهْلِيهِمْ، وَلَا هُمْ أَدَّوْا رِسَالَةَ صَاحِبِهِمْ. وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ السُّدِّيِّ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْأَخْنَسِ بْنِ شَرِيقٍ أَقْبَلَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَظْهَرَ لَهُ الْإِسْلَامَ فَأَعْجَبَهُ ذَلِكَ مِنْهُ، ثُمَّ خَرَجَ فَمَرَّ بِزَرْعٍ لِقَوْمٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَحُمُرٍ، فَأَحْرَقَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute