وَبَيَّنَ فِي الدَّرْسِ أَنَّ هَذَا الِاسْتِعْمَالَ مِنْ أَسَالِيبِ الْعَرَبِ الْمَعْرُوفَةِ مِنْ حَذْفِ الْمُضَافِ وَإِسْنَادِ الْفِعْلِ إِلَى الْمُضَافِ إِلَيْهِ مَجَازًا، وَأَوْضَحَهُ أَتَمَّ الْإِيضَاحِ، فَهُوَ عَلَى حَدِّ (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ) (١٢: ٨٢) وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْإِسْنَادَ حَقِيقِيٌّ وَإِنَّمَا حُذِفَ الْمَفْعُولُ لِلْعِلْمِ بِهِ مِنَ الْوَعِيدِ السَّابِقِ; أَيْ: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ بِمَا وَعَدَهُمْ بِهِ مِنَ السَّاعَةِ وَالْعَذَابِ،
وَعَدَّهُ آخَرُونَ مِنَ الْمُتَشَابِهَاتِ فَقَالُوا: إِنَّ اللهَ تَعَالَى يَأْتِي بِذَاتِهِ وَلَكِنْ لَا كَإِتْيَانِ الْبَشَرِ، بَلْ إِتْيَانُهُ مِنْ صِفَاتِهِ الَّتِي لَا نَبْحَثُ عَنْ كَيْفِيَّتِهَا اتِّبَاعًا لِلسَّلَفِ، وَأَمَّا تَأْوِيلُ الْإِتْيَانِ بِمَا نَقَلَهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنِ الْأَشْعَرِيِّ فَلَا نَذْكُرُهُ; لِأَنَّهُ مِمَّا يَزِيدُ الْمَعْنَى بُعْدًا عَنِ الْفَهْمِ.
وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ مُقْتَضَى مَذْهَبِ السَّلَفِ أَنْ يُجْعَلَ كُلُّ مَا يُسْنَدُ إِلَى اللهِ تَعَالَى مِنَ الْمُتَشَابِهَاتِ الَّتِي لَا تُفْهَمُ بِحَالٍ، وَلَا تُفَسَّرُ وَلَوْ بِإِجْمَالٍ، فَحَسْبُنَا أَنَّ نَقُولَ عَلَى رَأْيِ مَنْ فَسَّرَ إِتْيَانَ اللهِ هُنَا بِإِتْيَانِ أَمْرِهِ وَمَا وَعَدَ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ، أَوْ إِتْيَانِهِ بِمَا وَعَدَ بِهِ: إِنَّنَا نُفَوِّضُ إِلَيْهِ تَعَالَى كَيْفِيَّةَ ذَلِكَ، وَبِذَلِكَ نَكُونُ عَلَى طَرِيقَةِ السَّلَفِ فِي التَّفْوِيضِ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى يُنْذِرُ الَّذِينَ زَالُوا عَنْ صِرَاطِهِ وَفَرَّقُوا دَيْنَهُ بِأَمْرٍ مَعْرُوفٍ فِي الْجُمْلَةِ لَا بِشَيْءٍ مَجْهُولٍ مُطْلَقٍ، وَمِمَّا يَدُلُّنَا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ مَا ذَكَرْنَا قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَيَوْمَ تَشَقَّقُّ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا) (٢٥: ٢٥) مَعَ الْآيَاتِ الْكَثِيرَةِ النَّاطِقَةِ بِأَنَّ قِيَامَ السَّاعَةِ وَخَرَابَ الْعَالَمِ يَكُونُ (إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ) (٨٤: ١) وَانْتَثَرَتْ كَوَاكِبُهَا إِلَخْ. وَإِنَّمَا يَأْتِي بِذَلِكَ اللهُ تَعَالَى بِتَغْيِيرِ هَذَا النِّظَامِ الَّذِي وَضَعَهُ لِارْتِبَاطِ الْكَوَاكِبِ وَحِفْظِ كُلِّ كَوْكَبٍ فِي فَلَكِهِ، وَسَيَأْتِي لِمَذْهَبِ السَّلَفِ فِي الْإِتْيَانِ تَوْجِيهٌ أَقْرَبُ مِنْ هَذَا.
وَأَمَّا ظُلَلُ الْغَمَامِ: فَهِيَ قِطَعُ السَّحَابِ الْأَوَّلِ، وَهِيَ جَمْعُ ظُلَّةٍ - بِالضَّمِّ - كَغُرَفٍ، جُمَعُ غُرْفَةٍ، وَهِيَ مَا أَظَلَّكَ، وَالثَّانِي جَمْعُ غَمَامَةٍ كَسَحَابٍ وَسَحَابَةٍ وَزْنًا وَمَعْنًى، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ يُغِمُّ السَّمَاءَ; أَيْ: يَسْتُرُهَا، وَخَصَّ بَعْضُهُمُ الْغَمَامَ بِالسَّحَابِ الْأَبْيَضِ، وَزَادَ بَعْضٌ آخَرُ الرَّقِيقَ، وَفِيهِ أَنَّ الْأَبْيَضَ الرَّقِيقَ لَا يُمْطِرُ، وَالْعَرَبُ تُسَمِّي الْبَرَدَ حَبَّ الْغَمَامِ. وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ أَنَّ إِتْيَانَ أَمْرِ اللهِ أَوْ عَذَابِهِ فِي الْغَمَامِ عِبَارَةٌ عَنْ مَجِيئِهِ مِنْ حَيْثُ تُرْجَى الرَّحْمَةُ بِالْمَطَرِ، وَذَلِكَ أَبْلَغُ فِي تَمْثِيلِ هَوْلِ الْعَذَابِ وَفَظَاعَتِهِ; لِأَنَّ الْخَوْفَ إِذَا جَاءَ مِنْ مَوْضِعِ الْأَمْنِ كَانَ خَطْبُهُ أَعْظَمَ، وَالْعَذَابُ إِذَا فَاجَأَ مِنْ حَيْثُ تُرْجَى الرَّحْمَةُ كَانَ وَقْعُهُ آلَمُ، كَمَا وَقَعَ لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ (قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ) (٤٦: ٢٤) وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْغَمَامَ مَظِنَّةُ الْمَطَرِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْغَمَامَ هُوَ السَّحَابُ الْأَبْيَضُ لَا يَعْنِي بِهِ تِلْكَ السَّحَائِبَ الْبِيضَ الرِّقَاقَ الْمُرْتَفِعَةَ الَّتِي تَظْهَرُ فِي أَيَّامِ الصَّيْفِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ ذَلِكَ السَّحَابَ الْمُسِفَّ لِثِقَلِهِ بِالْمَطَرِ الَّذِي هُوَ أَقْرَبُ إِلَى الْبَيَاضِ مِنْهُ إِلَى السَّوَادِ.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَإِنَّ الْحِكْمَةَ فِي نُزُولِ الْعَذَابِ فِي الْغَمَامِ إِنْزَالُهُ فَجْأَةً مِنْ غَيْرِ تَمْهِيدٍ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute