للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

أَنْ تُدْرِكَهَا، وَأَنْ تَصِلَ مِنْ مُقَدِّمَاتِهَا إِلَى نَتَائِجِهَا، تِلْكَ الْآيَاتُ الْبَيِّنَاتُ جَاءَ بِهَا الْأَنْبِيَاءُ عَلَى اخْتِلَافِ أَزْمَانِهِمْ وَأُمَمِهِمْ، جَاءَتْ إِلَى كُلِّ أُمَّةٍ بِمَا يُلَائِمُ حَالَتَهَا النَّفْسِيَّةَ وَمَكَانَتَهَا الْعَقْلِيَّةَ، فَكَانَ الْأَنْبِيَاءُ - عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي

الْأُمَمِ بِمَنْزِلَةِ الرَّأْسِ مِنَ الْبَدَنِ. جَاءُوهُمْ يُبَيِّنُونَ لَهُمُ الْخَيْرَ، وَيُبَشِّرُونَهُمْ بِحُسْنِ الْجَزَاءِ لِكَاسِبِهِ، وَيَكْشِفُونَ لَهُمْ مَسَالِكَ السُّوءِ، وَيُنْذِرُونَهُمْ بِسُوءِ الْمَصِيرِ لِصَاحِبِهِ.

وَلَمَّا كَانَ الِاسْتِعْدَادُ يَتَفَاوَتُ فِي الْأُمَمِ، كَانَتْ أُمَّةٌ أَوْلَى مِنْ أُمَّةٍ بِتَقَدُّمِ عَهْدِ النُّبُوَّاتِ فِيهَا، وَكَانَتْ تِلْكَ الْأُمَّةُ الْمُتَقَدِّمَةُ جَدِيرَةً بِأَنْ تَكُونَ إِمَامًا لِلْأُمَّةِ الْمُتَأَخِّرَةِ، سُنَّةُ اللهِ فِي الْخَلْقِ.

هَذَا الطَّوْرُ النُّورَانِيُّ الْجَدِيدُ - طَوْرُ ظُهُورِ النُّبُوَّةِ - هُوَ طَوْرُ خَيْرٍ وَسَعَادَةٍ، طَوْرُ هِدَايَةٍ وَرَشَادٍ وَأُخُوَّةٍ بَيْنَ الْمُهْتَدِينَ فِيهِ، وَسَدَادٍ فِي أَعْمَالِهِمْ، وَنُزُوعٍ إِلَى تَكْمِيلِ غَيْرِهِمْ بِمِثْلِ مَا كَمُلَتْ بِهِ أَنْفُسُهُمْ، وَإِضَاءَةِ مَا أَظْلَمَ مِنْ جَوِّ غَيْرِهِمْ بِمِثْلِ مَا ضَاءَ بِهِ جَوُّهُمْ، وَلَا يَزَالُونَ كَذَلِكَ مَا قَامُوا عَلَى فَهْمِ مَا جَاءَ إِلَيْهِمْ، وَمَا قَيَّدُوا عُقُولَهُمْ وَنُفُوسَهُمْ بِالْحُدُودِ الَّتِي وَضَعَهَا لَهُمْ، وَمَا وَقَفُوا عَلَى سِرِّ مَا حُمِلُوا عَلَيْهِ، وَلَزِمُوا رُوحَ مَا دُعُوا إِلَيْهِ، وَمَا حَدَبَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى الْآخَرِ لِيَرُدَّهُ إِذَا زَاغَ عَنِ الطَّرِيقِ الْمُعَبَّدَةِ، وَيُقِيمَهُ عَلَى السُّنَّةِ الْمَعْرُوفَةِ، فَهَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ) فَقَدْ قَطَعَ الْإِنْسَانُ فِي سَيْرِهِ إِلَى الْكَمَالِ مَرْحَلَةً أُولَى انْتَهَتْ إِلَى ظُهُورِ النُّبُوَّاتِ، ثُمَّ هُوَ يَسِيرُ فِي هَذِهِ مَرْحَلَةً أُخْرَى إِلَى أَنْ يَصِلَ إِلَى مَنْزِلٍ آخَرَ، وَلَكِنَّهُ يَا لَلْأَسَفِ لَيْسَ بِالْمَنْزِلِ الْمُرْتَضَى.

ذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا طَالَ الْأَمَدُ عَلَى عَهْدِ النُّبُوَّةِ وَبَعُدَ النَّاسُ عَنْ مَبْعَثِ نُورِهَا، وَيَنْبُوعِ نَمِيرِهَا، قَسَتِ الْقُلُوبُ، وَأَظْلَمَتِ الْأَنْفُسُ، وَغَلَبَتِ الشَّهَوَاتُ، فَضَعُفَ الْعِلْمُ بِسِرِّ الدَّعْوَةِ، وَأَهْمَلَتِ الْجَمْعِيَّةُ تَقْوِيمَ الطَّرِيقَةِ، وَاسْتَعْمَلَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالدِّينِ نُصُوصَ الدِّينِ فِيمَا يُضَيِّعُ حِكْمَةَ الدِّينِ، وَيَذْهَبُ بِأَثَرِهِ فِي النَّاسِ، فَيَقَعُ الِاخْتِلَافُ وَالِاضْطِرَابُ، وَيَنْقَلِبُ سَبَبُ السَّعَادَةِ الْأُولَى عَامِلًا لِلشَّقَاءِ فِي الْأُخْرَى، وَذَلِكَ بِاتِّبَاعِ خُطُوَاتِ شَيْطَانِ الرِّئَاسَةِ، وَالِانْقِيَادِ لِغِوَايَاتِ السِّيَاسَةِ، فَهَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ) .

هَذَا طَوْرٌ ثَالِثٌ لِلْجَمْعِيَّةِ الْبَشَرِيَّةِ، وَمَرْحَلَةٌ تَسِيرُ فِيهَا مَا شَاءَ اللهُ أَنْ تَسِيرَ

حَتَّى تَذَوُّقَ وَبَالَ أَمْرِهَا، وَحَتَّى تُبْصِرَ عَوَاقِبَ الْخِلَافِ بِمَا كَانَ مِنْ فَوَائِدِ الْأُلْفَةِ، وَحَتَّى تَرُدَّهَا الضَّرُورَاتُ إِلَى النَّظَرِ فِيمَا أَغْمَضَتْ عَنْهُ، وَإِلَى الرُّجُوعِ إِلَى مَا خَرَجَتْ مِنْهُ، فَتَعُودَ إِلَى مَحْوِ مَا عَرَضَ مِنَ الْعَادَاتِ، وَتَنْقِيَةِ الْقُلُوبِ مِنْ فَاسِدِ الِاعْتِقَادَاتِ، وَتَطْهِيرِ النَّفْسِ مَنْ رَدِيءِ الْمَلَكَاتِ، فَتُشْرِقَ لَهَا شَمْسُ الْحَقِّ الْأَوَّلِ، وَتَقُومَ عَلَى الطَّرِيقِ الْأَمْثَلِ، وَتَعُودَ الطُّمَأْنِينَةُ إِلَى النُّفُوسِ، وَيَتَسَاوَى فِي الْحَقِّ الرَّئِيسُ وَالْمَرْءُوسُ، وَيَجْتَمِعُ النَّاسُ عَلَى التَّنْزِيلِ، وَيَتَّحِدُونَ عَلَى صَحِيحِ التَّأْوِيلِ، وَهَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ) .

<<  <  ج: ص:  >  >>