الْكِتَابُ نَفْسُهُ، بِمَعْنَى يُبَيِّنُ الْحُكْمَ - بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحُقُوقِ الشَّخْصِيَّةِ وَغَيْرِهَا، وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ - أَيِ: الْكِتَابِ - بَعْدَ الْإِنْعَامِ بِهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ فِيهِ، وَفِي تَنْفِيذِ نَبِيِّهِمْ لَهُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ مِنْ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ. ثُمَّ يَظْهَرُ فِيهِمْ مُصْلِحُونَ يَهْدِيهِمُ اللهُ بِإِيمَانِهِمْ لِلْمَخْرَجِ مِمَّا اخْتَلَفُوا مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَمَشِيئَتِهِ (وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) كَمَا وَقَعَ لِأَهْلِ الْكِتَابِ ثُمَّ لِلْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ حَذَّرَهُمُ اللهُ تَعَالَى أَنْ يَكُونُوا مِثْلَهُمْ بِقَوْلِهِ: (وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينِ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) (٥٧: ١٦) وَهُمُ الْآنَ أَحْوَجُ إِلَى هَذَا الْإِصْلَاحِ مِنْ كُلِّ زَمَانٍ مَضَى.
هَذَا الْمَعْنَى الْمُجْمَلُ لَا يُخَالِفُ النُّصُوصَ فِي شَيْءٍ، وَظَوَاهِرُ الْقُرْآنِ تُوَافِقُ نَصَّ حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ فِي أَنَّ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ أَوَّلَ رَسُولٍ أَرْسَلَهُ اللهُ
إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ، وَقَدْ حُقِّقَتْ مَسْأَلَةُ نُبُوَّةِ آدَمَ فِي الْكَلَامِ عَلَى عَدَدِ الرُّسُلِ مِنْ تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ.
(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ)
الْآيَةُ مُتَّصِلَةٌ بِمَا قَبْلَهَا، فَقَدْ أَمَرَ اللهُ تَعَالَى بِالْوِفَاقِ وَالسَّلَامِ، وَبَيَّنَ سَبَبَ التَّنَازُعِ وَالْخِصَامِ، وَأَرْشَدَ إِلَى مَا فَطَرَ عَلَيْهِ الْبَشَرَ مِنْ حَاجَةِ بَعْضِهِمْ إِلَى التَّعَاوُنِ مَعَ بَعْضٍ عِنْدَمَا كَثُرُوا وَاجْتَمَعُوا وَكَثُرَتْ مَطَالِبُهُمْ وَتَعَدَّدَتْ رَغَائِبُهُمْ، وَمِنْ إِفْضَاءِ ذَلِكَ إِلَى التَّنَازُعِ وَالتَّعَادِي، وَمِنْ حَاجَتِهِمْ إِلَى نِظَامٍ جَامِعٍ وَشَرْعٍ يُحَدِّدُ الْحُقُوقَ وَيَهْدِي الْقُلُوبَ، لَا مَجَالَ فِيهِ لِلنِّزَاعِ وَالِاخْتِلَافِ; لِوُجُوبِ أَخْذِهِ بِالتَّسْلِيمِ لِمَا مَعَهُ أَوْ لِمَا فِيهِ مِنَ الْبَيِّنَاتِ عَلَى أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللهِ، وَذَكَرَ إِحْسَانَ اللهِ تَعَالَى إِلَيْهِمْ إِذْ بَعَثَ فِيهِمُ الْأَنْبِيَاءَ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِمُ الْكِتَابَ لِيُحَكَّمَ فِي الِاخْتِلَافِ، ثُمَّ ذَكَرَ اخْتِلَافَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ فِي الْكِتَابِ نَفْسِهِ وَتَحْوِيلَهُمُ الدَّوَاءَ دَاءً، وَاتِّخَاذَهُمُ الرَّابِطَةَ الْجَامِعَةَ آلَةً مُفَرِّقَةً، ثُمَّ هِدَايَةَ اللهِ تَعَالَى أَهْلَ الْإِيمَانِ الصَّحِيحِ لِمَا وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِرُجُوعِهِمْ إِلَى الْأَصْلِ وَهُوَ الْكِتَابُ، وَتَحْكِيمِهِ فِي كُلِّ خِلَافٍ، وَقَبُولِ حُكْمِهِ فِي كُلِّ نِزَاعٍ، وَالِاعْتِمَادِ فِي فَهْمِهِ عَلَى مَا يُؤْخَذُ مِنْ جُمْلَتِهِ، وَمَا عَلَّمَ عِلْمًا صَحِيحًا مِنْ سُنَّةِ مَنْ جَاءَ بِهِ، وَمَنْ صَدَّقُوهُ وَاتَّبَعُوهُ قَبْلَ الْخِلَافِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute