وَحْدَهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، لَا فِي الدُّعَاءِ وَلَا فِي غَيْرِهِ مِنْ مَعَانِي الْعِبَادَةِ الَّتِي بَيَّنَّاهَا فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ وَغَيْرِهَا، وَهَذَا الْأَصْلُ هُوَ مُنْتَهَى مَا يَصِلُ إِلَيْهِ ارْتِقَاءُ الْعَقْلِ الْبَشَرِيِّ فِي الِاعْتِقَادِ، وَتَطْهِيرِ الْأَنْفُسِ مِنَ الْخُرَافَاتِ وَالْأَوْهَامِ.
(٢) الْإِيمَانُ بِعَالَمِ الْغَيْبِ وَالْحَيَاةِ الْآخِرَةِ، ذَلِكَ أَنَّ الْعَوَالِمَ الْحَيَّةَ الَّتِي فِي هَذَا الْكَوْنِ لَا تَنْعَدِمُ مِنَ الْوُجُودِ وَلَا تَنْفُذُ مِنْ أَقْطَارِ مُلْكِ اللهِ بِمَا نَرَاهُ مِنْ فَسَادِ تَرْكِيبِهَا وَذَهَابِ صُوَرِهَا، فَإِذَا كَانَ الْعَدَمُ الْمَحْضُ غَيْرَ مَعْقُولٍ، وَالتَّحَوُّلُ فِي الصُّوَرِ مَأْلُوفًا مَنْظُورًا فَلَا غَرْوَ أَنْ يَكُونَ لِلنَّاسِ حَيَاةً أُخْرَى فِي عَالَمٍ آخَرَ بَعْدَ خَرَابِ هَذَا الْعَالَمِ. وَهَذَا الْإِيمَانُ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الِارْتِقَاءِ الْبَشَرِيِّ; لِأَنَّهُ يَبْعَثُ الْبَشَرَ إِلَى الِاسْتِعْدَادِ لِذَلِكَ الْعَالَمِ الْأَوْسَعِ الْأَكْمَلِ، وَيُعَرِّفُهُمْ بِأَنَّ وُجُودَهُمْ أَكْمَلُ وَأَبْقَى مِمَّا يَتَوَهَّمُونَ.
(٣) الْعَمَلُ الصَّالِحُ الَّذِي يَنْفَعُ صَاحِبَهُ وَيَنْفَعُ النَّاسَ.
فَهَذِهِ الْأُصُولُ الثَّلَاثَةُ الَّتِي جَاءَ بِهَا كُلُّ نَبِيٍّ مُرْسَلٍ لَا يَتْرُكُهَا إِنْسَانٌ بَعْدَ مَعْرِفَتِهَا وَالْأَخْذِ بِهَا إِلَّا وَيَكُونُ مَنْكُوسًا لَا حَظَّ لَهُ مِنَ الْكَمَالِ فِي دُنْيَاهُ وَلَا فِي آخِرَتِهِ، بَلْ يَكُونُ مِنْ أَصْحَابِ النُّفُوسِ الْخَبِيثَةِ وَالْأَرْوَاحِ الْمُظْلِمَةِ الَّتِي لَا مَقَرَّ لَهَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا دَارَ الْخِزْيِ وَالْهَوَانِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: (وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي مِثْلِ هَذَا.
كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ الْكَارِهِينَ لِلْقِتَالِ لَا سِيَّمَا فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ: إِذَا كَانَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ عَلَى مَا ذُكِرَ مِنَ الْكُفْرِ وَالطُّغْيَانِ، وَمِنْ إِيذَائِكُمْ وَفِتْنَتِكُمْ عَنِ الْإِيمَانِ، وَمِنْ مَنْعِ إِخْوَانِكُمْ عَنِ الْهِجْرَةِ إِلَيْكُمْ بَعْدَ طَرْدِكُمْ مِنَ الْأَوْطَانِ، وَمِنَ الْقَصْدِ إِلَى قِتَالِكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ لِتَخْسَرُوا دُنْيَاكُمْ وَآخِرَتَكُمْ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ تُحْجِمُوا عَنْ قِتَالِهِمْ عِنْدَ الْإِمْكَانِ، وَلَا أَنْ تَحْفِلُوا بِإِنْكَارِهِمْ عَلَيْكُمُ الْقِتَالَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ.
وَلَمَّا ذَكَرَ حَالَ الْمُشْرِكِينَ وَحُكْمَ الْمُرْتَدِّينَ نَاسَبَ أَنْ يَذْكُرَ جَزَاءَ الْمُؤْمِنِينَ
الْمُهَاجِرِينَ وَالْمُجَاهِدِينَ ; لِأَنَّ الذِّهْنَ يَتَوَجَّهُ إِلَى طَلَبِهِ فَقَالَ: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللهِ) الْمُهَاجَرَةُ: مُفَارَقَةُ الْأَوْطَانِ وَالْأَهْلِ، وَهِيَ مِنَ الْهَجْرِ، ضِدُّ الْوَصْلِ. وَلَمَّا هَاجَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ مَكَّةَ - فِرَارًا بِنَفْسِهِ وَبِقَوْمِهِ مِنْ أَذَى قُرَيْشٍ وَفِتْنَتِهِمْ - إِلَى الْمَدِينَةِ الَّتِي عَاهَدَهُ مَنْ آمَنَ مِنْ أَهْلِهَا عَلَى أَنْ يَمْنَعُوهُ مِمَّا يَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَهُمْ، وَجَبَ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَتَّبِعَهُ فِي هِجْرَتِهِ لِيَعْتَزَّ الْإِسْلَامُ بِأَهْلِهِ، وَيَقْدِرَ الْمُؤْمِنُونَ بِاجْتِمَاعِهِمْ عَلَى الدِّفَاعِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ، وَاسْتَمَرَّ وُجُوبُ الْهِجْرَةِ عَلَى مَنْ قَدَرَ إِلَى فَتْحِ مَكَّةَ، إِذْ خَذَلَ اللهُ الْمُشْرِكِينَ وَجَعَلَ كَلِمَتَهُمُ السُّفْلَى، وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الْهِجْرَةِ مِنْ بِلَادِ الْكُفْرِ إِلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ فِي مِثْلِ عَصْرِنَا هَذَا، وَيُؤْخَذُ مِنْ عِلَّةِ وُجُوبِ الْهِجْرَةِ فِي عَهْدِ التَّشْرِيعِ أَنَّهَا تَجِبُ بِمِثْلِ تِلْكَ الْعِلَّةِ فِي كُلِّ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute