للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَقَدْ فَسَّرَ (الْجَلَالُ) الْأَذَى: بِالْقَذَرِ تَبَعًا لِغَيْرِهِ، عَلَى أَنَّ أَخْذَهُ عَلَى ظَاهِرِهِ وَهُوَ الضَّرَرُ مُقَرَّرٌ فِي الطِّبِّ فَلَا حَاجَةَ إِلَى الْعُدُولِ عَنْهُ، وَقَدْ جَاءَ هَذَا الْحُكْمُ وَسَطًا بَيْنَ إِفْرَاطِ الْغُلَاةِ الَّذِينَ يَعُدُّونَ الْمَرْأَةَ الْحَائِضَ وَكُلَّ مَنْ يَمَسُّهَا أَوْ يَمَسُّ ثِيَابَهَا أَوْ فِرَاشَهَا مِنَ النَّجَاسَاتِ، وَتَفْرِيطِ الْمُتَسَاهِلِينَ الَّذِينَ يَسْتَحِلُّونَ مُلَابَسَتَهَا فِي الْحَيْضِ عَلَى مَا فِيهِ مِنَ الْأَذَى وَالدَّنَسِ.

وَقَدْ أَفَادَتْ عِبَارَةُ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ تَأْكِيدَ الْحُكْمِ إِذْ أَمَرَتْ بِاعْتِزَالِ النِّسَاءِ فِي

زَمَنِ الْمَحِيضِ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ تَرْكِ غِشْيَانِهِنَّ فِيهِ، ثُمَّ بَيَّنَتْ مُدَّةَ هَذَا الِاعْتِزَالِ بِصِيغَةِ النَّهْيِ، وَالْحِكْمَةُ فِي التَّأْكِيدِ هِيَ مُقَاوَمَةُ الرَّغْبَةِ الطَّبِيعِيَّةِ فِي مُلَابَسَةِ النِّسَاءِ وَإِيقَافِهَا دُونَ حَدِّ الْإِيذَاءِ، وَكَانَ يَظُنُّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ الِاعْتِزَالَ وَتَرْكَ الْقُرْبِ حَقِيقَةً لَا كِنَايَةً، وَأَنَّهُ يَجِبُ الِابْتِعَادُ عَنِ النِّسَاءِ فِي الْمَحِيضِ وَعَدَمُ الْقُرْبِ مِنْهُنَّ بِالْمَرَّةِ، وَلَكِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ الْمُحَرَّمَ إِنَّمَا هُوَ الْوِقَاعُ. عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا إِذَا حَاضَتِ الْمَرْأَةُ مِنْهُمْ لَمْ يُؤَاكِلُوهَا وَلَمْ يُجَامِعُوهَا فِي الْبُيُوتِ فَسَأَلَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى) إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((اصْنَعُوا كُلَّ شَيْءٍ إِلَّا الْجِمَاعَ)) رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ. وَفِي حَدِيثِ حِزَامِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ عَمِّهِ أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا يَحِلُّ لِي مِنِ امْرَأَتِي وَهِيَ حَائِضٌ؟ قَالَ: ((لَكَ مَا فَوْقَ الْإِزَارِ)) أَيْ: مَا فَوْقَ السُّرَّةِ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَقَدْ حَمَلَ بَعْضُهُمُ النَّهْيَ عَلَى مَنْ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ الْوِقَاعَ، وَكَأَنَّ السَّائِلَ كَانَ كَذَلِكَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مُخَصِّصٌ لِلْحَدِيثِ الْأَوَّلِ وَلِمَا فِي مَعْنَاهُ، فَلَا يَجُوزُ الِاسْتِمْتَاعُ إِلَّا بِمَا فَوْقَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ، وَهُوَ تَخْصِيصٌ بِالْمَفْهُومِ وَالْخِلَافُ فِيهِ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ مَعْلُومٌ. قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَعَاصِمٌ (يَطَّهَّرْنَ) بِتَشْدِيدِ الطَّاءِ وَأَصْلُهُ يَتَطَهَّرْنَ، وَالْبَاقُونَ بِالتَّخْفِيفِ.

(فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأُتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ) الطُّهْرُ فِي قَوْلِهِ: (حَتَّى يَطْهُرْنَ) انْقِطَاعُ دَمِ الْحَيْضِ وَهُوَ مَا لَا يَكُونُ بِفِعْلِ النِّسَاءِ، وَأَمَّا التَّطَهُّرُ فَهُوَ مِنْ عَمَلِهِنَّ وَهُوَ يَكُونُ عَقِبَ الطُّهْرِ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ مِنْهُ، فَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: هُوَ غَسْلُ أَثَرِ الدَّمِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ: إِنَّ انْقِطَاعَ الدَّمِ يُحِلُّهَا لِزَوْجِهَا وَلَكِنْ تَتَوَضَّأُ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الِاغْتِسَالُ بِالْمَاءِ إِنْ وُجِدَ، وَلَا مَانِعَ مِنْهُ وَإِلَّا فَالتَّيَمُّمُ. وَقَالَتِ الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ طَهُرَتْ لِأَقَلِّ مِنْ عَشْرٍ فَلَا تَحِلُّ إِلَّا إِذَا اغْتَسَلَتْ وَإِنْ لِعَشْرٍ حَلَّتْ وَلَوْ لَمْ تَغْتَسِلْ وَهُوَ تَفْصِيلٌ غَرِيبٌ. وَالْأَمْرُ بِإِتْيَانِهِنَّ لِرَفْعِ الْحَظْرِ فِي النَّهْيِ عَنْ قُرْبِهِنَّ وَبَيَانِ شَرْطِهِ وَقَيْدِهِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِلَفْظِ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ: (فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ) الْأَمْرُ التَّكْوِينِيُّ; أَيْ: فَأْتُوهُنَّ مِنَ الْمَأْتَى الَّذِي بَرَأَ اللهُ تَعَالَى الْفِطْرَةَ

عَلَى الْمَيْلِ إِلَيْهِ وَمَضَتْ سُنَّتُهُ بِحِفْظِ النَّوْعِ بِهِ وَهُوَ مَوْضِعُ النَّسْلِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْأَمْرِ مَا قَضَتْ بِهِ شَرِيعَةُ اللهِ تَعَالَى مِنْ طَلَبِ التَّزَوُّجِ وَتَحْرِيمِ الرَّهْبَانِيَّةِ، فَلَيْسَ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَتْرُكَ الزَّوَاجَ عَلَى نِيَّةِ الْعِبَادَةِ وَالتَّقَرُّبِ إِلَى اللهِ تَعَالَى; لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَدِ امْتَنَّ عَلَيْنَا بِأَنْ خَلَقَ

<<  <  ج: ص:  >  >>