للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَالْمَرْأَةُ، قَالَ وَحِكْمَتُهُ بَعْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ) هِيَ إِزَالَةُ وَهْمِ مَنْ يَتَوَهَّمُ أَنَّ الزَّوْجَ الْأَوَّلَ يَكُونُ أَحَقَّ بِهَا وَلَا تَظْهَرُ لَنَا حِكْمَةٌ فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّ الْمُرَادَ الزَّوْجُ الْأَوَّلُ وَالْمَرْأَةُ. وَعَلَى كُلٍّ مِنَ الْقَوْلَيْنِ لَا بُدَّ فِي التَّرَاجُعِ مِنْ مُرَاعَاةِ شَرْطِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: (إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ) أَيْ: تَرَجَّحَ عِنْدَ كُلٍّ مِنْهُمَا أَنَّهُ يَقُومُ بِحَقِّ الْآخَرِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي حَدَّهُ سُبْحَانَهُ تَعَالَى، فَلَا بُدَّ مِنْ حُسْنِ الْقَصْدِ وَسَلَامَةِ النِّيَّةِ مِنْ كِلَا الزَّوْجَيْنِ; لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى مَا وَضَعَ هَذِهِ الْحُدُودَ لِلزَّوْجَيْنِ إِلَّا لِيَصْلُحَ حَالُهُمَا وَيَسْتَقِيمَ عَمَلُهُمَا، فَإِنْ كَانَتْ هُنَاكَ نِيَّةُ سُوءٍ فَإِنَّ هَذَا التَّرَاجُعَ لَا قِيمَةَ لَهُ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى، وَإِنْ صَحَّ عِنْدَ الْقَاضِي أَوِ الْمُفْتِي عَمَلًا بِالظَّاهِرِ، وَقَدْ فَسَّرَ بَعْضُهُمُ الظَّنَّ هُنَا بِالْعِلْمِ، وَلَا وَجْهَ لَهُ لُغَةً وَلَا فِعْلًا إِذْ لَا يَعْلَمُ أَحَدٌ بِالْيَقِينِ كَيْفَ يُعَامَلُ الْآخَرُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَيَكْفِي أَنْ يَنْوِيَ إِقَامَةَ الْحُدُودِ الشَّرْعِيَّةِ وَيَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ الْقُدْرَةُ عَلَى تَنْفِيذِ مَا نَوَاهُ، قَالَ: (وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) الْإِشَارَةُ بِتِلْكَ إِلَى الْأَحْكَامِ فِي الْآيَةِ وَالْآيَتَيْنِ يُبَيِّنُهَا فِي كِتَابِهِ لِأَهْلِ الْعِلْمِ بِفَائِدَتِهَا وَمَا فِيهَا مِنَ الْمَصْلَحَةِ، وَمَنْ عَلِمَ الْمَصْلَحَةَ فِي شَيْءٍ كَانَ مُنْدَفِعًا بِطَبْعِهِ إِلَى الْعَمَلِ بِهِ وَإِقَامَتِهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي تَتَحَقَّقُ بِهِ الْفَائِدَةُ مِنْهُ، يُبَيِّنُهَا لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ الْحَقَائِقَ; لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يُقِيمُونَهَا، لَا مَنْ يَجْهَلُ ذَلِكَ فَيَأْخُذُ بِظَاهِرِ قَوْلِ الْمُفْتِي أَوِ الْقَاضِي وَلَا يَجْعَلُ لِحُسْنِ النِّيَّةِ وَإِخْلَاصِ الْقَلْبِ مُدْخَلًا فِي عَمَلِهِ، فَيَرْجِعُ إِلَى الْمَرْأَةِ وَيُضْمِرُ لَهَا السُّوءَ وَيَبْغِيهَا الِانْتِقَامَ، وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى هَذِهِ الْحُدُودِ فِي تَفْسِيرِ (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ) فَارْجِعْ إِلَيْهِ إِنْ كُنْتَ نَسِيتَهُ.

أَلَا فَلْيَعْلَمْ كُلُّ مُسْلِمٍ أَنَّ الْآيَةَ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ النِّكَاحَ الَّذِي تَحِلُّ بِهِ الْمُطَلَّقَةُ ثَلَاثًا هُوَ مَا كَانَ زَوَاجًا صَحِيحًا عَنْ رَغْبَةٍ، وَقَدْ حَصَلَ بِهِ مَقْصُودُ النِّكَاحِ لِذَاتِهِ، فَمَنْ تَزَوَّجَ بِامْرَأَةٍ مُطَلَّقَةٍ ثَلَاثًا بِقَصْدِ إِحْلَالِهَا لِلْأَوَّلِ كَانَ زَوَاجُهُ صُورِيًّا غَيْرَ صَحِيحٍ، وَلَا تَحِلُّ بِهِ الْمَرْأَةُ لِلْأَوَّلِ، بَلْ هُوَ مَعْصِيَةٌ لَعَنَ الشَّارِعُ فَاعِلَهَا، وَهُوَ لَا يَلْعَنُ مَنْ فَعَلَ فِعْلًا مَشْرُوعًا وَلَا مَكْرُوهًا فَقَطْ، بَلِ الْمَشْهُورُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ اللَّعْنَ إِنَّمَا يَكُونُ عَلَى كَبَائِرِ الْمَعَاصِي، فَإِنْ عَادَتْ إِلَيْهِ كَانَتْ حَرَامًا، وَمِثَالُ ذَلِكَ مِثَالُ مَنْ طَهَّرَ الدَّمَ بِالْبَوْلِ; وَهُوَ رِجْسٌ عَلَى رِجْسٍ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَالثَّوْرِيُّ وَأَهْلُ الظَّاهِرِ وَخَلَائِقُ غَيْرُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ.

وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ نِكَاحَ التَّحْلِيلِ شَرٌّ مِنْ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ وَأَشَدُّ فَسَادًا وَعَارًا.

وَقَالَ آخَرُونَ مِنَ الْفُقَهَاءِ: إِنَّهُ جَائِزٌ مَعَ الْكَرَاهَةِ مَا لَمْ يُشْتَرَطْ فِي الْعَقْدِ; لِأَنَّ الْقَضَاءَ بِالظَّوَاهِرِ لَا بِالْمَقَاصِدِ وَالضَّمَائِرِ، نَقُولُ: نَعَمْ; وَلَكِنَّ الدِّينَ الْقَيِّمَ هُوَ أَنْ يَكُونَ الظَّاهِرُ عُنْوَانَ الْبَاطِنِ وَإِلَّا كَانَ نِفَاقًا، عَلَى أَنَّ بَاغِيَ التَّحْلِيلِ لَيْسَ بِمُتَزَوِّجٍ حَقِيقَةَ الزَّوَاجِ الَّذِي شَرَعَهُ اللهُ وَبَيَّنَهُ لَا عِنْدَ نَفْسِهِ وَلَا عِنْدَ مَنْ أَرَادَهُ عَلَى التَّحْلِيلِ وَتَوَاطَأَ مَعَهُ عَلَيْهِ، فَإِنْ عُذِرَ الْقَاضِي الْمُنَفِّذُ لَهُ بِجَهْلِهِ لِلْوَاقِعِ عَمَلًا بِالظَّاهِرِ، فَلَا يُعْذَرُ بِهِ الْعَالِمُ بِهِ وَالْمُقْتَرِفُ لَهُ. وَقَدْ أَوْضَحَ ذَلِكَ الْحَافِظُ

<<  <  ج: ص:  >  >>