للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ تَفْصِيلًا لِلنِّعْمَةِ الْمُجْمَلَةِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ) بِإِرْسَالِ هَذَا الرَّسُولِ، وَبَيَانِ الْحُدُودِ وَالْحُقُوقِ الَّتِي تَحْفَظُ لَكُمُ الْهَنَاءَةَ فِي الدُّنْيَا، وَتَضْمَنُ لَكُمُ السَّعَادَةَ فِي الْآخِرَةِ، وَذَكَرَ أَنَّ مَا بَعْدَ هَذَا تَفْصِيلٌ لَهُ، وَفَسَّرَ الْحِكْمَةَ بِسِرِّ الْكِتَابِ، ثُمَّ قَالَ: وَفِي النِّعْمَةِ وَجْهٌ آخَرُ، وَهِيَ هَذِهِ الرَّحْمَةُ الَّتِي جَعَلَهَا اللهُ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَامْتَنَّ بِهَا عَلَيْنَا فِي قَوْلِهِ: (وَجَعَلَ بَيْنِكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) (٣٠: ٢١) وَإِنَّمَا أَوْرَدْنَا هَذَا الْوَجْهَ أَوَّلًا بِالْبَيَانِ وَالتَّفْصِيلِ; لِأَنَّهُ هُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَنَا، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ النِّعْمَةَ هُنَا عَامَّةٌ تَشْمَلُ نِعَمَ الدُّنْيَا وَالدِّينَ.

(وَاتَّقُوا اللهَ) أَمَرَ بَعْدَ كُلِّ مَا تَقَدَّمَ مِنَ التَّأْكِيدِ وَالتَّشْدِيدِ وَالتَّهْدِيدِ بِتَقْوَاهُ بِامْتِثَالِ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ زِيَادَةً فِي الْعِنَايَةِ بِأَمْرِ النِّسَاءِ وَصِلَةِ الزَّوْجِيَّةِ - وَهُوَ مَا تَقْتَضِيهِ الْبَلَاغَةُ فِي هَذَا الْمَقَامِ - مُقَاوَمَةً لِمَا مَلَكَ النُّفُوسَ قَبْلَ ذَلِكَ مِنْ عَدَمِ الْمُبَالَاةِ بِعَقْدِ الزَّوْجِيَّةِ، إِذْ كَانُوا يَرَوْنَهُ كَعَقْدِ الرِّقِّ وَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ فِي الْمَتَاعِ الْخَسِيسِ وَالنَّفِيسِ، بَلْ كَانُوا يَرَوْنَهُ دُونَ ذَلِكَ; لِأَنَّ الرَّجُلَ لَمْ يَكُنْ يَشْتَرِي مَتَاعًا ثُمَّ يَرْمِي بِهِ فِي الطَّرِيقِ زُهْدًا فِيهِ، وَلَمْ يَكُنْ

يُمْسِكُ قِنَّهُ لِيُعَذِّبَهُ وَيَنْتَقِمَ بِهِ، وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا يُطَلِّقُونَ الْمَرْأَةَ لِأَدْنَى سَبَبٍ - كَالْمَلَلِ وَالْغَضَبِ - ثُمَّ يَعُودُونَ إِلَيْهَا، يَفْعَلُونَ ذَلِكَ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ، وَكَانُوا يُمْسِكُونَهَا لِلضِّرَارِ وَالْإِهَانَةِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، وَقَدْ يَسْتَبْدِلُ الْوَاحِدُ مِنْهُمُ امْرَأَةَ الْآخَرِ بِامْرَأَتِهِ، فَاعْتِيَادُ هَذِهِ الْمُعَامَلَةِ السُّوءَى وَالْأُنْسُ بِهَا لَا تَكُونُ مُقَاوَمَتُهُ إِلَّا بِتَعْظِيمِ شَأْنِ عَقْدِ الزَّوْجِيَّةِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي تَأْكِيدِهِ بِالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ، وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ; إِذْ لَا يَسْهُلُ عَلَى الرَّجُلِ الَّذِي كَانَ يَرَى الْمَرْأَةَ مِثْلَ الْأَمَةِ أَوْ دُونَهَا أَنْ يُسَاوِيَهَا بِنَفْسِهِ بِمُجَرَّدِ الْأَمْرِ، وَيَرَى لَهَا عَلَيْهِ مِثْلَ مَا لَهُ عَلَيْهَا، وَيَحْظُرُ عَلَى نَفْسِهِ مُضَارَّتَهَا وَإِيذَاءَهَا وَيَلْتَزِمُ مُعَامَلَتَهَا بِالْمَعْرُوفِ فِي حَالِ إِمْسَاكِهَا عِنْدَهُ، وَفِي حَالِ تَسْرِيحِهَا إِنِ اضْطُرَّ إِلَيْهِ، وَلَكِنَّ هَذِهِ الْعِظَاتِ وَالتَّشْدِيدَاتِ الْمُشْتَمِلَةَ عَلَى الْإِقْنَاعِ وَبَيَانِ الْمَصْلَحَةِ هِيَ الَّتِي تَعْمَلُ فِي نَفْسِهِ، وَتُؤَثِّرُ بِتَكْرَارِهَا فِي قَلْبِهِ، وَإِنْ كَانَ كَالْحِجَارَةُ فِي الْقَسْوَةِ:

أَمَّا تَرَى الْحَبْلَ بِتَكْرَارِهِ ... فِي الصَّخْرَةِ الصَّمَّاءِ قَدْ أَثَّرَا

نَعَمْ إِنَّهُ قَدْ كَانَ لَهُ أَحْسَنُ التَّأْثِيرِ فِي أُولَئِكَ الْخَارِجِينَ مِنْ ظُلُمَاتِ الْجَاهِلِيَّةِ إِلَى نُورِ الْإِسْلَامِ، وَفِيمَنِ اتَّبَعَهُمْ بِإِحْسَانٍ، ثُمَّ خَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَعْرَضُوا عَنِ الْقُرْآنِ، وَجَهِلُوا مَا فِيهِ مِنَ الْحِكَمِ وَالْأَحْكَامِ، حَتَّى صَارُوا شَرًّا مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ، وَسَائِرُ الْأُمَمِ مِنْ ظُلْمِ النِّسَاءِ، فَلَمْ يَتَّقُوا اللهَ فِي ذَلِكَ وَلَا تَدَبَّرُوا قَوْلَهُ بَعْدَمَا تَقَدَّمَ.

وَقَوْلُهُ: (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) وَهُوَ أَبْلَغُ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ كُلِّ مَا تَقَدَّمَ مِنَ التَّأْكِيدِ وَالتَّشْدِيدِ فِي حُقُوقِ النِّسَاءِ; لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يُرَاعِي الْأَحْكَامَ الظَّاهِرَةَ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ بِغَيْرِ إِخْلَاصٍ فَيُطَبِّقُ الْعَمَلَ عَلَى الْحُكْمِ عَلَى وَجْهٍ يَعْلَمُ أَنَّ مِنْ وَرَائِهِ ضَرَرًا، فَهَذِهِ الْجُمْلَةُ تُذَكِّرُهُ بِأَنَّ اللهَ

<<  <  ج: ص:  >  >>