للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مُبَيِّنًا الْحِكْمَةَ فِي شَرْعِ هَذِهِ الْمُتْعَةَ: إِنَّ فِي هَذَا الطَّلَاقِ غَضَاضَةً وَإِيهَامًا لِلنَّاسِ أَنَّ الزَّوْجَ مَا طَلَّقَهَا إِلَّا وَقَدْ رَابَهُ مِنْهَا شَيْءٌ، فَإِذَا هُوَ مَتَّعَهَا مَتَاعًا حَسَنًا تَزُولُ هَذِهِ الْغَضَاضَةُ وَيَكُونُ هَذَا الْمَتَاعُ الْحَسَنُ بِمَنْزِلَةِ الشَّهَادَةِ بِنَزَاهَتِهَا، وَالِاعْتِرَافِ بِأَنَّ الطَّلَاقَ كَانَ مِنْ قِبَلِهِ; أَيْ: لِعُذْرٍ يَخْتَصُّ بِهِ، لَا مِنْ قِبَلِهَا; أَيْ: لَا لِعِلَّةٍ فِيهَا; لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى أَمَرَنَا أَنْ نُحَافِظَ عَلَى الْأَعْرَاضِ بِقَدْرِ الطَّاقَةِ، فَجَعَلَ هَذَا التَّمْتِيعَ كَالْمَرْهَمِ لِجُرْحِ الْقَلْبِ لِكَيْ يَتَسَامَعَ بِهِ النَّاسُ، فَيُقَالُ: إِنَّ فُلَانًا أَعْطَى فُلَانَةً كَذَا وَكَذَا فَهُوَ لَمْ يُطَلِّقْهَا إِلَّا لِعُذْرٍ، وَهُوَ آسِفٌ عَلَيْهَا مُعْتَرِفٌ بِفَضْلِهَا; لِأَنَّهُ رَأَى عَيْبًا فِيهَا أَوْ رَابَهُ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِهَا، وَيُقَالُ: إِنَّ سَيِّدَنَا الْحَسَنَ السِّبْطَ مَتَّعَ إِحْدَى زَوْجَاتِهِ بِعَشْرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ وَقَالَ: ((مَتَاعٌ قَلِيلٌ مِنْ حَبِيبٍ مُفَارِقٍ)) لِهَذَا وَكَلَ اللهُ تَعَالَى الْأَمْرَ فِي ذَلِكَ إِلَى أَرْيَحِيَّةِ الْمُؤْمِنِينَ فَلَمْ يُحَدِّدْهُ، بَلْ وَصَفَهُ بِالْمَعْرُوفِ، وَذَكَرَ الْمُطَلِّقَ عِنْدَ إِيجَابِهِ بِالْإِحْسَانِ هُنَا وَبِالتَّقْوَى فِي الْآيَةِ الْآتِيَةِ.

وَأَقُولُ زِيَادَةً فِي إِيضَاحِ الْحِكْمَةِ: مِنَ الْمَعْرُوفِ أَنَّ الْإِقْدَامَ عَلَى عَقْدِ الزَّوْجِيَّةِ يَتَقَدَّمُهُ تَعَارُفٌ وَتَوَادٌّ بَيْنَ بَيْتِ الرَّجُلِ وَبَيْتِ الْمَرْأَةِ، ثُمَّ تَكُونُ الْخِطْبَةُ فَالْعَقْدُ، فَإِذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ قَبْلَ الدُّخُولِ فَإِنَّ النَّاسَ يَظُنُّونَ بِالْمَرْأَةِ مِنَ الظُّنُونِ مَا لَا يَظُنُّونَ بِهَا إِذَا طُلِّقَتْ بَعْدَ الدُّخُولِ; لِأَنَّ الْمُعَاشَرَةَ هِيَ الَّتِي تَكْشِفُ لِكُلِّ وَاحِدٍ عَنْ طِبَاعِ الْآخَرِ، فَيُحْمَلُ الطَّلَاقُ عَلَى تَنَافُرِ الطِّبَاعِ، وَعَدَمِ الْمُشَاكَلَةِ فِي الْأَخْلَاقِ وَالْعَادَاتِ، وَهَذَا وَجْهٌ لِجَعْلِ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ مُتْعَةَ غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا وَاجِبَةً وَمُتْعَةَ غَيْرِهَا مُسْتَحَبَّةً،

وَإِذَا كَانَتِ الْغَضَاضَةُ فِي الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، فَلَا جَرَمَ أَنَّ ذَلِكَ التَّوَادَّ الَّذِي ظَهَرَتْ بَوَادِرُهُ قَبْلَ الْخِطْبَةِ وَتَمَكَّنَ بِالْعَقْدِ يَتَحَوَّلُ إِلَى عَدَاءٍ وَتَبَاغُضٍ، إِلَّا أَنْ يَدْفَعَ الْمُطَلِّقُ ذَلِكَ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ وَهِيَ الْمُتْعَةُ اللَّائِقَةُ، وَلَا تَتَحَقَّقُ هَذِهِ الْحِكْمَةُ إِلَّا بِجَعْلِ مِقْدَارِ الْمُتْعَةِ مَوْكُولًا إِلَى اخْتِيَارِ الرَّجُلِ، مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهَا وَاجِبَةٌ عَلَى حَسَبِ الْحَالِ فِي السَّعَةِ، وَأَنَّ الْغَرَضَ مِنْهَا كَذَا، فَلَا يَتَحَقَّقُ الِامْتِثَالُ إِلَّا بِتَحَرِّي إِصَابَتِهِ، وَمِمَّا رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ السِّبْطِ أَيْضًا أَنَّهُ مَتَّعَ (بِعِشْرِينَ أَلْفًا وَزُقَاقٍ مِنْ عَسَلٍ) ، وَكَذَلِكَ كَانُوا يَفْعَلُونَ.

هَذَا هُوَ الْمُتَبَادَرُ مِنَ الْآيَةِ، وَلَكِنْ مِنَ الْفُقَهَاءِ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْمُتْعَةَ تُسْتَحَبُّ وَلَا تَجِبُ; لِأَنَّهَا جُعِلَتْ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ، كَأَنَّ الْقِيَامَ بِالْوَاجِبِ لَا يُوصَفُ بِالْإِحْسَانِ، وَيَكْفِي فِي إِثْبَاتِ الْوُجُوبِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ) وَقَوْلُهُ: (حَقًّا عَلَى) وَإِنَّمَا حَسُنَ ذُكِرُ الْإِحْسَانِ هُنَا; لِأَنَّ الْمَفْرُوضَ غَيْرُ مَحْدُودٍ، وَالشَّارِعُ يُحِبُّ بَسْطَ الْكَفِّ فِيهِ، فَذَكَرَ بِالْإِحْسَانِ لِأَجْلِ ذَلِكَ، وَلِيُبَيِّنَ أَنَّ الْمُتْعَةَ لَيْسَتْ مِنْ قَبِيلِ الْغَرَامَةِ، إِذْ لَوْ كَانَتْ غَرَامَةً لَا اخْتِيَارَ فِي قَدْرِهَا كَمَا أَنَّهُ لَا اخْتِيَارَ فِي أَصْلِهَا لَمَا تَحَقَّقَتْ بِهَا الْحِكْمَةُ الَّتِي تَقَدَّمَ شَرْحُهَا، وَآيَةُ الْأَحْزَابِ الْمُتَقَدِّمَةُ آمِرَةٌ بِالتَّمْتِيعِ أَمْرًا لَمْ يُذْكَرْ مَعَهُ لَفْظُ الْمُحْسِنِينَ، عَلَى أَنَّ اللهَ تَعَالَى ذَكَرَ الْإِحْسَانَ وَالْمُحْسِنِينَ فِي مَقَامِ

<<  <  ج: ص:  >  >>