للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَهُنَاكَ وَجْهٌ آخَرُ يَتَّصِلُ بِقَوْلِ الْجُمْهُورِ، وَهُوَ أَنَّ الْآيَةَ كَانَتْ فِي فَرْضِ الْوَصِيَّةِ، وَطُلِبَ مَعَ هَذَا الْفَرْضِ مِنْ وَرَثَةِ الْمَيِّتِ أَلَّا يُخْرِجُوا النِّسَاءَ فِي مُدَّةِ الْحَوْلِ، وَأَنَّ الْخُرُوجَ الَّذِي يَبْرَأُ بِهِ أَوْلِيَاءُ الْمَيِّتِ مِنَ الْوَصِيَّةِ الْمَفْرُوضَةِ الَّتِي هِيَ النَّفَقَةُ هُوَ الْخُرُوجُ الَّذِي بَعْدَ الْعِدَّةِ الَّتِي هِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ، وَعَشْرٌ، قَالَ: وَهُوَ قَوْلٌ ضَعِيفٌ.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَمْ يَذْكُرْ فِيهَا التَّرَبُّصَ الَّذِي هُوَ الِاعْتِدَادُ كَمَا ذَكَرَ فِي غَيْرِهَا مِنْ آيَاتِ الْعِدَّةِ السَّابِقَةِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْوَصِيَّةَ، وَالْمُرَادُ بِهَا أَنْ يَسْتَوْصِيَ الرِّجَالُ بِالنِّسَاءِ اللَّوَاتِي يُتَوَفَّى أَزْوَاجُهُنَّ خَيْرًا بِأَلَّا يُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِ أَزْوَاجِهِنَّ بَعْدَ مَا كَانَ مِنْ قُوَّةِ عَلَاقَتِهِنَّ بِهَا إِلَى مُدَّةِ سَنَةٍ كَامِلَةٍ تَمُرُّ فِيهَا عَلَيْهِنَّ الْفُصُولُ الْأَرْبَعَةُ الَّتِي يَتَذَكَّرْنَ أَزْوَاجَهُنَّ فِيهَا، وَأَنْ يُجْعَلَ لَهُنَّ فِي مُدَّةِ السَّنَةِ شَيْءٌ مِنَ الْمَالِ يُنْفِقْنَهُ عَلَى أَنْفُسِهِنَّ، إِلَّا إِذَا خَرَجْنَ وَتَعَرَّضْنَ لِلزَّوَاجِ، أَوْ تَزَوَّجْنَ بَعْدَ الْعِدَّةِ الْمَفْرُوضَةِ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ، وَلَكِنْ لَمْ يَعْمَلْ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَلَا مَنْ بَعْدَهُمْ بِهَذَا; وَلِذَلِكَ قَالَ الْجُمْهُورُ: إِنَّهُ مَنْسُوخٌ، وَذَهَبَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ إِلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالْوَصِيَّةِ كَانَ لِلنَّدْبِ وَتَهَاوَنَ النَّاسُ بِهِ كَمَا تَهَاوَنُوا فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَنْدُوبَاتِ - أَيْ كَاسْتِئْذَانِ الْأَوْلَادِ الَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ عِنْدَ دُخُولِ بُيُوتِهِمْ فِي الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي هِيَ مَظِنَّةُ التَّهَاوُنِ بِالسِّتْرِ، قَبْلَ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ وَضْعِ الثِّيَابِ مِنَ الظَّهِيرَةِ فِي أَيَّامِ الْحَرِّ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ - قَالَ: وَعَلَى هَذَا فَلَا نَسْخَ لِأَنَّهُمْ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يُصَارُ إِلَى النَّسْخِ إِذَا أَمْكَنَ الْجَمْعُ بَيْنَ النَّصَّيْنِ.

هَذَا مَا جَرَى عَلَيْهِ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ، وَفِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ عَزَيْتُ مُخَالَفَةَ الْجُمْهُورِ إِلَى كَبِيرَيْنِ مِنْ قُدَمَاءِ الْمُفَسِّرِينَ وَهُمَا مُجَاهِدٌ، وَأَبُو مُسْلِمٍ، أَمَّا مُجَاهِدٌ فَقَدْ رَوَى عَنْهُ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّهُ يَقُولُ: نَزَلَ فِي عِدَّةِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا آيَتَانِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا) (٢: ٢٣٤) الْآيَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ، وَهَذِهِ الْآيَةُ. فَيَجِبُ حَمْلُ الْآيَتَيْنِ عَلَى

حَالَتَيْنِ، فَإِنِ اخْتَارَتِ الْإِقَامَةَ فِي دَارِ زَوْجِهَا الْمُتَوَفَّى وَالنَّفَقَةَ مِنْ مَالِهِ فَعِدَّتُهَا سَنَةٌ، وَإِلَّا فَعِدَّتُهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ، فَيَكُونُ لِلْعِدَّةِ عَلَى قَوْلِهِ أَجَلٌ مُحَتَّمٌ، وَهُوَ الْأَقَلُّ، وَأَجَلٌ مُخَيَّرٌ فِيهِ، وَهُوَ الْأَكْثَرُ. وَأَمَّا أَبُو مُسْلِمٍ فَيَقُولُ: إِنَّ مَعْنَى الْآيَةِ: مَنْ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَقَدْ وَصَّوْا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ بِنَفَقَةِ الْحَوْلِ وَسُكْنَى الْحَوْلِ، فَإِنْ خَرَجْنَ قَبْلَ ذَلِكَ وَخَالَفْنَ وَصِيَّةَ الْأَزْوَاجِ بَعْدَ أَنْ يُقِمْنَ الْمُدَّةَ الَّتِي ضَرَبَهَا اللهُ تَعَالَى لَهُنَّ، فَلَا حَرَجَ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ أَيْ نِكَاحٍ صَحِيحٍ; لِأَنَّ إِقَامَتَهُنَّ بِهَذِهِ الْوَصِيَّةِ غَيْرُ لَازِمَةٍ، قَالَ: وَالسَّبَبُ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي زَمَانِ الْجَاهِلِيَّةِ يُوَصُّونَ بِالنَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى حَوْلًا كَامِلًا، وَكَانَ يَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ الِاعْتِدَادُ بِالْحَوْلِ; فَبَيَّنَ اللهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَالنَّسْخُ زَائِلٌ.

<<  <  ج: ص:  >  >>