لَهُمَا، وَإِذَا سَهُلَ تَسْلِيمُ قَوْلِهِمْ بِجَوَازِ وُجُودِ آيَتَيْنِ فِي سُورَتَيْنِ تَنْسَخُ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى مَعَ وُجُودِ النَّاسِخَةِ فِي السُّورَةِ الْمُتَأَخِّرَةِ فِي تَرْتِيبِ الْقُرْآنِ فَلَا يَسْهُلُ الْقَوْلُ بِأَنَّ آيَاتٍ مُتَنَاسِقَةً فِي سُورَةٍ وَاحِدَةٍ يُجْعَلُ السَّابِقُ مِنْهَا نَاسِخًا لِمَا بَعْدَهُ، وَيُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ بِوُجُوبِ تَنْزِيهِ كَلَامِ اللهِ تَعَالَى عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يُجِيزُهُ; لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِي التَّنْزِيهِ يَدْخُلُ فِي بَابِ الْعَقَائِدِ، فَهُوَ أَبْلَغُ مِنَ الْوَاجِبِ فِي الْأَحْكَامِ الْعَمَلِيَّةِ، فَكَيْفَ يُسَمَّى تَرْكُهُ جَائِزًا؟ وَإِذَا كَانَ غَيْرَ جَائِزٍ فَهُوَ الْبُرْهَانُ الْقَاطِعُ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ الْجُمْهُورِ بِالنَّسْخِ.
بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ أَقُولُ: إِنَّ قَوْلَ مُجَاهِدٍ فِي الْآيَةِ بَعِيدٌ جِدًّا وَإِنْ فَضَّلَهُ الرَّازِيُّ عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ، وَيُرَجِّحُ قَوْلَ أَبِي مُسْلِمٍ أَمْرَانِ؛ أَحَدُهُمَا فِي الْعِبَارَةِ وَهُوَ جَعْلُ (الَّذِينَ
يُتَوَفَّوْنَ) فِيهِ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَالْجُمْهُورُ يَجْعَلُونَهُ بِمَعْنَى الَّذِينَ تَحْضُرُهُمُ الْوَفَاةُ; كَأَنَّ هَذِهِ الْوَصِيَّةَ لَا تَجِبُ عِنْدَ الْقَائِلِ بِوُجُوبِهَا إِلَّا عَلَى مَنْ يَشْعُرُ بِدُنُوِّ أَجَلِهِ. وَثَانِيهِمَا مَا عُلِمَ مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ فِي إِلْزَامِ الْمَرْأَةِ بِبَيْتِ زَوْجِهَا الْمُتَوَفَّى سَنَةً كَامِلَةً، فَلَمَّا جَعَلَ الْإِسْلَامُ عِدَّتَهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا كَانَ مِنْ مُقْتَضَاهُ أَنْ يُخْرِجَهَا الْوَرَثَةُ مِنَ الْبَيْتِ بَعْدَ مُضِيِّ الْعِدَّةِ، فَإِذَا كَانَتْ غَيْرَ رَاغِبَةٍ فِي الزَّوَاجِ يَشُقُّ عَلَيْهَا ذَلِكَ، فَكَانَ مِنَ اللَّائِقِ الْمُتَوَقَّعِ مِنَ الزَّوْجِ الْوَفِيِّ أَنْ يُوصِيَ بِعَدَمِ إِخْرَاجِهَا قَبْلَ الْحَوْلِ الْمُعْتَادِ جَبْرًا لِقَلْبِهَا، وَأَلَّا تُكَلَّفَ النَّفَقَةَ عَلَى نَفْسِهَا مَا دَامَتْ فِي الْبَيْتِ، وَقَدْ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى لِلنَّاسِ أَنَّهُ لَا حَرَجَ عَلَى أَوْلِيَاءِ الْمَيِّتِ وَوَرَثَتِهِ فِيمَا تَفْعَلُهُ الْمَرْأَةُ إِذَا هِيَ خَرَجَتْ مِنْ بَيْنِهِمْ; لِأَنَّ كَفَالَتَهُمْ إِيَّاهَا تَسْقُطُ حِينَئِذٍ مِنْ غَيْرِ تَقْصِيرٍ مِنْهُمْ فِي إِكْرَامِهَا، وَإِنَّمَا قَيَّدَ الْفِعْلَ بِالْمَعْرُوفِ; لِأَنَّ مَنْعَهَا عَنِ الْمُنْكَرِ وَاجِبٌ عَلَيْهِمْ، فَإِذَا قَصَّرُوا فِيهِ كَانَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ عَظِيمٌ.
وَهَذَا الْوَجْهُ الثَّانِي يَتَّفِقُ مَعَ التَّفْسِيرِ الْمُخْتَارِ عَنِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ. وَهُوَ أَنَّ الْوَصِيَّةَ لِلنَّدْبِ لَا لِلْوُجُوبِ. وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ يُمْكِنُ التَّقَصِّي مِنْهُ بِجَعْلِ الْوَصِيَّةِ مِنَ اللهِ تَعَالَى لَا مِنَ الْمُتَوَفَّى، وَالتَّقْدِيرُ عَلَى الْوَجْهِ الْمُخْتَارِ: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا، وَصِيَّةً مِنَ اللهِ لِأَزْوَاجِهِمْ، أَوْ فَاللهُ يُوصِي وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ أَنْ يُمَتَّعْنَ مَتَاعًا وَلَا يُخْرَجْنَ مِنْ بُيُوتِ أَزْوَاجِهِنَّ إِلَى تَمَامِ الْحَوْلِ، فَإِنْ خَرَجْنَ مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَيُّهَا الْمُخَاطَبُونَ بِالْوَصِيَّةِ فِيهِنَّ فِيمَا فَعَلْنَ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَرْعًا وَعَادَةً كَالتَّعَرُّضِ لِلْخِطَابِ بَعْدَ الْعِدَّةِ وَالتَّزَوُّجِ; إِذْ لَا وِلَايَةَ لَكُمْ عَلَيْهِنَّ فَهُنَّ حَرَائِرُ لَا يُمْنَعْنَ إِلَّا مِنَ الْمُنْكَرِ الَّذِي يُمْنَعُ مِنْهُ كُلُّ مُكَلَّفٍ، وَجَعْلُ الْوَصِيَّةِ مِنَ اللهِ تَعَالَى مَعْهُودٌ فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ: (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلَادِكُمْ) (٤: ١١) وَقَوْلِهِ: (غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللهِ) (٤: ١٢) وَهَذَا هُوَ الْمُتَبَادِرُ مِنَ النَّظْمِ الْكَرِيمِ فَهُوَ أَظْهَرُ مِنْ قَوْلِ أَبِي مُسْلِمٍ، وَلَا يُعَارِضُ آيَةَ تَحْدِيدِ الْعِدَّةِ وَلَا آيَةَ الْمَوَارِيثِ وَلَا حَدِيثَ ((لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ)) فَيَتَأَتَّى فِيهِ النَّسْخُ، سَوَاءٌ كَانَتْ هَذِهِ الْوَصِيَّةُ لِنَدْبٍ أَوْ لِلْوُجُوبِ، وَمَا قُلْنَا إِنَّهَا لِلنَّدْبِ إِلَّا لِعَدَمِ شُيُوعِ الْعَمَلِ بِهَا كَآيَةِ اسْتِئْذَانِ الْوِلْدَانِ فِي سُورَةِ النُّورِ، وَلَا يُمْكِنُ الْجَزْمُ بِأَنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ بِهَا أَحَدٌ أَلْبَتَّةَ إِذْ لَمْ يَطَّلِعْ أَحَدٌ مِنَ الْخَلْقِ عَلَى جَمِيعِ مُعَامَلَاتِ النَّاسِ فِي بُيُوتِهِمْ، فَتَأَمَّلْ هَذَا وَمَا قَبْلَهُ أَيُّهَا الْمُسْتَقِلُّ الْفَهْمِ الْمُعَافَى مِنْ جَهَالَةِ التَّقْلِيدِ، وَتَذَكَّرْ قَوْلَ الْمَثَلِ السَّائِرِ: (كَمْ تَرَكَ الْأَوَّلُ لِلْآخِرِ) .
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute