للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

(٤) وَمُطَلَّقَةٌ مَدْخُولٌ بِهَا غَيْرُ مَفْرُوضٍ لَهَا، قَالُوا: وَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا بِلَا خِلَافٍ، وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ النِّسَاءِ: (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً) (٤: ٢٤) مَعْنَاهُ: فَأَعْطُوهُنَّ مُهُورَهُنَّ بِالْفَرْضِ وَالتَّقْدِيرِ إِذَا كَانَ غَيْرَ مُسَمًّى; أَيْ: وَالْعُمْدَةُ فِي التَّقْدِيرِ مُسَاوَاتُهَا بِأَمْثَالِهَا عَلَى الْأَقَلِّ. وَلَمْ يَأْمُرْنَا تَعَالَى بِالتَّمْتِيعِ عِنْدَ ذِكْرِ نَوْعٍ مِنَ الْمُطَلَّقَاتِ إِلَّا غَيْرَ الْمَمْسُوسَاتِ مُطْلَقًا كَمَا فِي آيَةِ الْأَحْزَابِ، أَوْ مُقَيَّدًا بِقَوْلِهِ: (أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً) (٢: ٢٣٦) كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْآيَةِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا آنِفًا.

ثُمَّ خَتَمَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الْأَحْكَامَ الْمَسْرُودَةَ هُنَا بِقَوْلِهِ: (وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ) إِلَخْ، فَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْمُرَادَ الْمُطَلَّقَاتُ الْمَعْهُودَاتُ اللَّوَاتِي سَبَقَ الْأَمْرُ بِتَمْتِيعِهِنَّ، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنِ ابْنِ زَيْدٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ (وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ) (٢: ٢٣٦) قَالَ رَجُلٌ: إِنْ أَحْسَنْتُ فَعَلْتُ، وَإِنْ لَمْ أُرِدْ ذَلِكَ لَمْ أَفْعَلْ; فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الْآيَةَ. وَفَسَّرُوا الْمُتَّقِينَ بِمُتَّقِي الْكُفْرِ، وَلَيْسَتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ مِمَّا يُحْتَجُّ بِهِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ ذِكْرَ الْمُحْسِنِينَ هُنَاكَ لَا يَدُلُّ عَلَى التَّخْيِيرِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ هَذَا حُكْمٌ عَامٌّ فَتَجِبُ الْمُتْعَةُ لِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ، وَلَا تَكْرَارَ عَلَى هَذَا مَعَ الْآيَةِ الْآمِرَةِ بِتَمْتِيعِ مَنْ لَمْ تُمَسَّ وَلَمْ يُفْرَضْ لَهَا; لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُسُوقَةٌ لِحُكْمِ هَذِهِ الْمُتْعَةِ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ وَلَا تَقْيِيدٍ بِكَوْنِهَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ حَالِ الرَّجُلِ فِي الْإِيسَارِ، وَتِلْكَ سِيقَتْ لِبَيَانِ نَفْيِ الْجُنَاحِ عَمَّنْ طَلَّقَ مَنْ لَمْ يَمَسَّهَا وَلَمْ يَفْرِضْ لَهَا، وَجَاءَ فِي السِّيَاقِ أَنَّهُ يَجِبُ لَهَا تَمْتِيعٌ حَسَنٌ بِحَسَبِ وُسْعِ الْمُطَلِّقِ لِمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي تَفْسِيرِهَا، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْمُتْعَةُ مَشْرُوعَةً لِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ، وَرُوِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَعَطَاءٍ، وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَأَبِي الْعَالِيَةِ، وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ وَأَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ، وَاسْتَدَلُّوا بِعُمُومِ هَذِهِ الْآيَةِ وَبُقُولِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا) (٣٣: ٢٨) وَقَدْ كُنَّ مَدْخُولًا بِهِنَّ مَفْرُوضًا لَهُنَّ الْمَهْرُ.

وَالْقَائِلُونَ بِهَذَا مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهَا وَاجِبَةٌ لِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: وَاجِبَةٌ لِمَنْ لَمْ تُمَسَّ وَلَمْ يُفْرَضْ لَهَا مَنْدُوبَةٌ لِغَيْرِهَا، وَحُجَّةُ مَنْ قَالَ: إِنَّ التَّمْتِيعَ خَاصٌّ بِمَنْ لَمْ تُمَسَّ وَلَمْ يُفْرَضْ لَهَا هِيَ أَنَّهُ بَدَلٌ مِمَّا يَجِبُ لِغَيْرِهَا مَنْ نِصْفِ الْمَهْرِ إِنْ فُرِضَ لَهَا وَلَمْ تُمَسَّ، أَوِ الْمَهْرِ الْمُسَمَّى، أَوْ مَهْرِ الْمِثْلِ إِذَا كَانَتْ مَمْسُوسَةً، وَحَسْبُنَا أَنَّ اللهَ تَعَالَى جَعَلَ تَمْتِيعَ الْمُطَلَّقَاتِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ، وَقَدْ فَسَّرُوهُ بِالَّذِينِ يَتَّقُونَ الشِّرْكَ، أَوْ هُوَ حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ مُطْلَقًا، إِلَّا أَنْ يَثْبُتَ أَنَّ مَا تَسْتَحِقُّهُ مِنَ الْمَهْرِ يُسَمَّى مَتَاعًا فِي عُرْفِ الْقُرْآنِ، فَحِينَئِذٍ تَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ فَذْلَكَةً لِسَائِرِ الْآيَاتِ، كَأَنَّهُ قَالَ: لِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ مَتَاعٌ تُمَتَّعُ بِهِ، فَمِنْهُنَّ مَنْ مَتَاعُهَا الْمَهْرُ الْمُسَمَّى أَوِ الْمُقَدَّرُ، وَمِنْهُنَّ مَنْ مَتَاعُهَا نِصْفُهُ، وَمِنْهُنَّ مَنْ لَهَا مَتَاعٌ غَيْرُ مَحْدُودٍ; لِأَنَّهُ عَلَى حَسَبِ الِاسْتِطَاعَةِ. وَأَحْوَطُ الْأَقْوَالِ وَأَوْسَطُهَا قَوْلُ مَنْ جَعَلَ الْمُتْعَةَ غَيْرَ الْمَهْرِ وَأَوْجَبَهَا لِمَنْ لَا تَسْتَحِقُّ مَهْرًا وَنَدَبَهَا لِغَيْرِهَا.

<<  <  ج: ص:  >  >>