للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فَلَا يَكُونُ لَهُ حَظٌّ مِنْ نَفَقَتِهِ يُقَرِّبُهُ إِلَى رَبِّهِ زُلْفَى، بَلْ يَكُونُ كُلُّ جَزَائِهِ تِلْكَ السُّمْعَةَ الْحَسَنَةَ ((فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ)) ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُنْفِقُ فِي الْمَصَالِحِ بِنِيَّةٍ حَسَنَةٍ، وَلَكِنْ بِغَيْرِ بَصِيرَةٍ تُرِيهِ مَوَاطِنَ الْمَنْفَعَةِ بِنَفَقَتِهِ، فَيَبْنِي مَسْجِدًا حَيْثُ تَكْثُرُ الْمَسَاجِدُ; فَيَكُونُ سَبَبًا فِي زِيَادَةِ تَفَرُّقِ الْجَمَاعَةِ وَذَلِكَ مُخَالِفٌ لِحِكْمَةِ الشَّرْعِ، أَوْ يَبْنِي مَدْرَسَةً وَلَا يُحْسِنُ اخْتِيَارَ الْمُعَلِّمِينَ لَهَا، أَوْ يَفْرِضُ لَهَا مِنَ النَّفَقَةِ مَا لَا يَكْفِي لِدَوَامِهَا، فَيُسْرِعُ إِلَيْهَا الْخَرَابُ، أَوْ يَضَعُ فِيهَا مُعَلِّمِينَ فَاسِدِي الِاعْتِقَادِ أَوِ الْآدَابِ. فَيُفْسِدُونَ وَلَا يُصْلِحُونَ، فَمِثْلُ هَذَا كُلِّهِ لَا يُقَالُ لَهُ قَرْضٌ حَسَنٌ، وَإِنَّمَا يَكُونُ الْإِنْفَاقُ قَرْضًا حَسَنًا مُسْتَحِقًّا لِلْمُضَاعَفَةِ الْكَثِيرَةِ إِذَا وُضِعَ مَوْضِعَهُ مَعَ الْبَصِيرَةِ وَحُسْنِ النِّيَّةِ; لِيَكُونَ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ مِنْ إِقَامَةِ الدِّينِ وَحِفْظِ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ مَنْفَعَةِ جَمِيعِ الْأَنَامِ مِنَ الطَّرِيقِ الَّذِي شَرَعَهُ الْإِسْلَامُ.

وَأَمَّا هَذِهِ الْمُضَاعَفَةُ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ - وَسَيَأْتِي فِي آيَةٍ أُخْرَى بُلُوغُهَا سَبْعَمِائَةِ ضِعْفٍ، وَالْمُرَادُ الْكَثْرَةُ - فَهِيَ تَكُونُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ; ذَلِكَ بِأَنَّ الْمُنْفِقَ لِإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللهِ وَلِتَعْزِيزِ الْأُمَّةِ وَلِلْمُدَافَعَةِ عَنِ الْحَقِّ وَالْحَقِيقَةِ يَكُونُ مُدَافِعًا عَنْ نَفْسِهِ وَمُعَزِّزًا لَهَا وَحَافِظًا لِحُقُوقِهَا; لِأَنَّ اعْتِدَاءَ الْمُعْتَدِينَ عَلَى الْأُمَّةِ إِنَّمَا يَكُونُ بِالِاعْتِدَاءِ عَلَى أَفْرَادِهَا، فَضَعْفُ الْأُمَّةِ وَإِذْلَالُهَا وَضَيَاعُ حُقُوقِهَا لَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا بِمَا يَقَعُ عَلَى أَفْرَادِهَا وَهُوَ مِنْهُمْ، وَالْبَلَاءُ يَكُونُ عَامًّا (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) (٨: ٢٥) ثُمَّ إِنَّ الْأُمَّةَ الَّتِي تَبْذُلُ أَغْنِيَاؤُهَا الْمَالَ وَتَقُومُ بِفَرِيضَةِ التَّعَاوُنِ عَلَى الْأَعْمَالِ، فَيَكْفُلُ غَنِيُّهَا فَقِيرَهَا، وَيَحْمِي قَوِيُّهَا ضَعِيفَهَا، تَتَّسِعُ دَائِرَةُ مَصَالِحِهَا وَمَنَافِعِهَا، وَتَكْثُرُ مَرَافِقُهَا وَتَتَوَفَّرُ سَعَادَتُهَا، وَتَدُومُ عَلَى أَفْرَادِهَا النِّعْمَةُ، مَا اسْتَقَامُوا عَلَى الْبَذْلِ وَالتَّعَاوُنِ فِي الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ، ثُمَّ إِنَّهُمْ يَكُونُونَ بِذَلِكَ مُسْتَحِقِّينَ لِسَعَادَةِ الْآخِرَةِ وَمُضَاعَفَةِ الثَّوَابِ فِيهَا.

وَأَقُولُ: لَوْ سِرْنَا فِي الْأَرْضِ وَسَبَرْنَا أَحْوَالَ الْأُمَمِ الْحَاضِرَةِ وَعَرَفْنَا تَارِيخَ الْأُمَمِ الْغَابِرَةِ لَرَأْينَا كَيْفَ مَاتَتِ الْأُمَمُ الَّتِي قَصَّرَتْ فِي هَذِهِ الْفَرِيضَةِ أَوِ اسْتُعْبِدَتْ، وَكَيْفَ عَزَّتِ الْأُمَمُ الَّتِي شَمَّرَتْ فِيهَا وَسَعِدَتْ، وَهَذِهِ الْمُضَاعَفَةُ الدُّنْيَوِيَّةُ تَكُونُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَقَامَتْ هَذِهِ السُّنَّةَ الْإِلَهِيَّةَ فِي حِفْظِ بَيْضَتِهَا، وَإِعْزَازِ سُلْطَانِهَا، سَوَاءٌ أَكَانَ الْمُنْفِقُونَ فِيهَا يَبْتَغُونَ الْأَجْرَ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى أَمْ لَا، وَإِنَّهَا لَمُضَاعَفَةٌ كَثِيرَةٌ لَا يُمْكِنُ تَحْدِيدُهَا، فَمَا أَجْهَلَ الْأُمَمَ الْغَافِلَةَ عَنْهَا وَعَنْ حَالِ أَهْلِهَا إِذْ يَرَوْنَ أَهْلَهَا قَدْ وَرِثُوا الْأَرْضَ وَسَادُوا الشُّعُوبَ فَيَتَمَنَّوْنَ لَوْ كَانُوا مِثْلَهُمْ، وَلَا يَدْرُونَ كَيْفَ يَكُونُ كَذَلِكَ!

وَمِنَ الْعَجَبِ أَنْ يَكُونَ الْمُسْلِمُونَ الْيَوْمَ أَجْهَلَ الْأُمَمِ وَالشُّعُوبِ بِهَذِهِ السُّنَّةِ الْإِلَهِيَّةِ وَهُمْ يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ وَلَا تَتَحَرَّكُ قُلُوبُهُمْ، وَلَا تَنْبَسِطُ أَيْدِيهِمْ عِنْدَ تِلَاوَةِ آيَاتِهِ الْحَاثَّةِ عَلَى بَذْلِ الْمَالِ فِي سَبِيلِهِ، وَلَا سِيَّمَا هَذِهِ الْآيَةُ الَّتِي لَوْ أُنْزِلَتْ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا

<<  <  ج: ص:  >  >>