تَمْهِيدٌ فِي نِسْبَةِ قَصَصِ الْقُرْآنِ إِلَى التَّارِيخِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا، وَبَيَانُ حَالِ الْأُمَمِ قَبْلَ الْقُرْآنِ وَبَعْدَهُ.
بَدَأَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى تَفْسِيرَ هَذِهِ الْآيَةِ بِمُقَدَّمَةٍ فِي قِصَصِ الْقُرْآنِ جَعَلَهَا كَالتَّمْهِيدِ لِتَفْسِيرِهَا، فَقَالَ مَا مِثَالُهُ مَعَ إِيضَاحٍ: تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ (أَلَمْ
تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ) (٢: ٢٤٣) الْآيَةَ. أَنَّ الْقُرْآنَ لَمْ يُعَيِّنْ أُولَئِكَ الْقَوْمَ وَلَا الزَّمَانَ وَلَا الْمَكَانَ اللَّذَيْنِ كَانُوا فِيهِمَا (يَعْنِي عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهَا قِصَّةٌ وَاقِعَةٌ لَا ضَرْبُ مَثَلٍ كَمَا قَالَ عَطَاءٌ) ثُمَّ ذَكَرَ هَاهُنَا قِصَّةً أُخْرَى عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَعَيَّنَ الْقَوْمَ وَذَكَرَ أَنَّهُ كَانَ لَهُمْ نَبِيٌّ وَلَمْ يَذْكُرِ اسْمَهُ وَلَا الزَّمَانَ وَلَا الْمَكَانَ اللَّذَيْنِ حَدَثَتْ فِيهِمَا الْقِصَّةُ، وَلَكِنَّهُ ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ اسْمَ طَالُوتَ وَجَالُوتَ وَدَاوُدَ.
يَظُنُّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ الْآنَ - كَمَا ظَنَّ كَثِيرٌ مِمَّنْ قَبْلَهُمْ - أَنَّ الْقِصَصَ الَّتِي جَاءَتْ فِي الْقُرْآنِ يَجِبُ أَنْ تَتَّفِقَ مَعَ مَا جَاءَ فِي كُتُبِ بَنِي إِسْرَائِيلَ الْمَعْرُوفَةِ عِنْدَ النَّصَارَى بِالْعَهْدِ الْعَتِيقِ أَوْ كُتُبِ التَّارِيخِ الْقَدِيمَةِ، وَلَيْسَ الْقُرْآنُ تَارِيخًا وَلَا قَصَصًا وَإِنَّمَا هُوَ هِدَايَةٌ وَمَوْعِظَةٌ، فَلَا يَذْكُرُ قِصَّةً لِبَيَانِ تَارِيخِ حُدُوثِهَا، وَلَا لِأَجْلِ التَّفَكُّهِ بِهَا أَوِ الْإِحَاطَةِ بِتَفْصِيلِهَا، وَإِنَّمَا يَذْكُرُ مَا يَذْكُرُهُ لِأَجْلِ الْعِبْرَةِ كَمَا قَالَ: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ) (١٢: ١١١) وَبَيَانُ سُنَنِ الِاجْتِمَاعِ كَمَا قَالَ: (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) (٣: ١٣٧) وَقَالَ: (سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ) (٤٠: ٨٥) وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَالْحَوَادِثُ الْمُتَقَدِّمَةُ مِنْهَا مَا هُوَ مَعْرُوفٌ، وَاللهُ تَعَالَى يَذْكُرُ مِنْ هَذَا وَذَاكَ مَا شَاءَ أَنْ يَذْكُرَ لِأَجْلِ الْعِبْرَةِ وَالْمَوْعِظَةِ، فَيَكْتَفِي مِنَ الْقِصَّةِ بِمَوْضِعِ الْعِبْرَةِ وَمَحَلِّ الْفَائِدَةِ، وَلَا يَأْتِي بِهَا مُفَصَّلَةً بِجُزْئِيَّاتِهَا الَّتِي لَا تَزِيدُ فِي الْعِبْرَةِ بَلْ رُبَّمَا تُشْغَلُ عَنْهَا، فَلَا غَرْوَ أَنْ يَكُونَ فِي هَذِهِ الْقِصَصِ الَّتِي يَعِظُنَا اللهُ بِهَا وَيُعَلِّمُنَا سُنَنَهُ مَا لَا يَعْرِفُهُ النَّاسُ; لِأَنَّهُ لَمْ يُرْوَ وَلَمْ يُدَوَّنْ بِالْكِتَابِ. وَقَدِ اهْتَدَى بَعْضُ الْمُؤَرِّخِينَ الرَّاقِينَ فِي هَذِهِ الْأَزْمِنَةِ إِلَى الِاقْتِدَاءِ بِهَذَا، فَصَارَ أَهْلُ الْمَنْزِلَةِ الْعَالِيَةِ مِنْهُمْ يَذْكُرُونَ مِنْ وَقَائِعِ التَّارِيخِ مَا يَسْتَنْبِطُونَ مِنْهُ الْأَحْكَامَ الِاجْتِمَاعِيَّةَ وَهُوَ الْأُمُورُ الْكُلِّيَّةُ، وَلَا يَحْفِلُونَ بِالْجُزْئِيَّاتِ لِمَا يَقَعُ فِيهَا مِنَ الْخِلَافِ الَّذِي يَذْهَبُ بِالثِّقَةِ، وَلِمَا فِي قِرَاءَتِهَا مِنَ الْإِسْرَافِ فِي الزَّمَنِ وَالْإِضَاعَةِ لِلْعُمُرِ بِغَيْرِ فَائِدَةٍ تُوَازِيهِ، وَبِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ يُمْكِنُ إِيدَاعُ مَا عُرِفَ مِنْ تَارِيخِ الْعَالَمِ فِي مُجَلَّدٍ وَاحِدٍ يُوثَقُ بِهِ وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ، فَلَا يَكُونُ عُرْضَةً لِلتَّكْذِيبِ وَالطَّعْنِ، كَمَا هُوَ الشَّأْنُ فِي الْمُصَنَّفَاتِ الَّتِي تَسْتَقْصِي الْوَقَائِعَ الْجُزْئِيَّةَ مُفَصَّلَةً تَفْصِيلًا.
إِنَّ مُحَاوَلَةَ جَعْلِ قَصَصِ الْقُرْآنِ كَكُتُبِ التَّارِيخِ بِإِدْخَالِ مَا يَرْوُونَ فِيهَا عَلَى أَنَّهُ
بَيَانٌ لَهَا هِيَ مُخَالَفَةٌ لِسُنَّتِهِ، وَصَرْفٌ لِلْقُلُوبِ عَنْ مَوْعِظَتِهِ، وَإِضَاعَةٌ لِمَقْصِدِهِ وَحِكْمَتِهِ، فَالْوَاجِبُ أَنْ نَفْهَمَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute