وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي التَّابُوتِ: (فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ) فَقَدْ كَثُرَتْ فِيهِ الرِّوَايَاتُ، وَمِنْهَا مَا لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ نَقْلٌ وَلَا يَقْبَلُهُ عَقْلٌ، عَلَى أَنَّهَا مُتَعَارِضَةٌ لَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهَا كَمَا تَرَى فِي تَفْسِيرِ ابْنِ جَرِيرٍ وَهُوَ أُمُّ التَّفَاسِيرِ.
وَقَدْ أَوْرَدْنَا مَا أَوْرَدْنَا مِنْ كُتُبِ الْيَهُودِ لِيُعْلَمَ أَنَّ أَكْثَرَ مَا ذُكِرَ عَنِ التَّابُوتِ وَعَمَّا فِيهِ مِنَ الْغَرَائِبِ لَا أَصْلَ لَهُ فِي تِلْكَ الْكُتُبِ، وَإِنَّمَا وَحْيُ اللهِ تَعَالَى نَاطِقٌ بِأَنَّ فِيهِ سَكِينَةٌ، وَالسَّكِينَةُ فِي اللُّغَةِ مَا تَسْكُنُ إِلَيْهِ النَّفْسُ وَيَطْمَئِنُّ بِهِ الْقَلْبُ، وَفِي إِتْيَانِ الصُّنْدُوقِ سَكِينَةٌ لَا تَخْفَى لِمَا كَانَ لَهُ مِنَ الشَّأْنِ الدِّينِيِّ عِنْدَ الْقَوْمِ، أَوْ فِيهِ مَا يُحْدِثُ لَهُمْ سَكِينَةً وَهِيَ الْفِيرَانُ وَالْبَوَاسِيرُ الذَّهَبُ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى خَوْفِ الْعَدُوِّ، أَوِ الْأَلْوَاحُ أَوْ رَضَاضَتُهَا، وَهِيَ هِيَ الْبَقِيَّةُ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ، وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ نَحْوُ مَا قُلْنَاهُ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَأَوْلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ بِالْحَقِّ فِي مَعْنَى السَّكِينَةِ مَا قَالَهُ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ مِنْ أَنَّهَا الشَّيْءُ تَسْكُنُ إِلَيْهِ النُّفُوسُ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَوْلُهُ: (تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ) يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَلَائِكَةِ صُوَرُ الْكَرُوبَيْنِ وَقَدْ حَمَلَ التَّابُوتَ; أَيْ: وُضِعَ عَلَيْهِمَا كَمَا تَقُولُ فِي وَصْفِ الْقُصُورِ وَالتَّمَاثِيلِ الْمَصْنُوعَةِ: فِيهَا فُلَانٌ عَلَى فَرَسٍ مِنْ نُحَاسٍ، تُرِيدُ تِمْثَالَ الْمَلِكِ وَتِمْثَالَ الْفَرَسِ، وَثَانِيهِمَا: أَنَّ الْبَقَرَتَيْنِ اللَّتَيْنِ حَمَلَتَا التَّابُوتَ مِنْ بَعْضِ بِلَادِ الْفِلَسْطِينِيِّينَ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَتَا تَسِيرَانِ مُسَخَّرَتَيْنِ بِإِلْهَامِ الْمَلَائِكَةِ، وَفِي كُتُبِ الْقَوْمِ أَنَّ الْبَقَرَتَيْنِ اللَّتَيْنِ جَرَّتَا عَجَلَةَ التَّابُوتِ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا قَائِدٌ وَلَا سَائِقٌ، وَمَا يَجْرِي بِإِلْهَامٍ لَا كَسْبَ فِيهِ لِلْبَشَرِ وَهُوَ مِنَ الْخَيْرِ يُسْنَدُ إِلَى إِلْهَامِ الْمَلَائِكَةِ. رَوَى نَحْوَ هَذَا ابْنُ جَرِيرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ مَعْقِلٍ أَنَّهُ سَمِعَ وَهْبَ بْنَ مُنَبِّهٍ يَقُولُ: وَكَلَ بِالْبَقَرَتَيْنِ اللَّتَيْنِ سَارَتَا بِالتَّابُوتِ أَرْبَعَةً مِنَ الْمَلَائِكَةِ يَسُوقُونَهُمَا إِلَخْ، وَخَتَمَ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) قَالُوا: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا تَتِمَّةَ كَلَامِ نَبِيِّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَهُمْ، أَيْ إِنَّ فِي مَجِيءِ التَّابُوتِ عَلَامَةٌ أَوْ حُجَّةٌ لَكُمْ تَدُلُّ عَلَى عِنَايَةِ اللهِ بِكُمْ، وَاصْطِفَائِهِ لَكُمْ هَذَا الْمَلِكَ الَّذِي يَنْهَضُ بشُئُونِكِمْ وَيُنَكِّلُ بِأَعْدَائِكُمْ، فَعَلَيْكُمْ أَنْ تَرْضَوْا بِمُلْكِهِ وَلَا تَفَرَّقُوا عَنْهُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ اسْتِئْنَافَ كَلَامٍ مِنْهُ تَعَالَى لِهَذِهِ الْأُمَّةِ، مَعْنَاهُ أَنَّ فِيمَا أَوْحَاهُ اللهُ تَعَالَى إِلَى نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ آيَةٌ بَيِّنَةٌ عَلَى ثُبُوتِهِ; إِذْ لَوْلَا الْوَحْيُ لَمَا كَانَ يَعْرِفُهَا وَهُوَ الْأُمِّيُّ الَّذِي لَمْ يَقْرَأْ وَلَمْ يَتَعَلَّمْ شَيْئًا، وَلَا كَانَ يَعْرِفُ مَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ مِنَ الْعِبْرَةِ وَالْفَائِدَةِ، وَلَا سِيَّمَا مَا يُعْتَبَرُ فِي الْمُلُوكِ
مِنَ الصِّفَاتِ الَّتِي تُؤَهِّلُهُمْ لِلْقِيَامِ بِأَعْبَاءِ السِّيَاسَةِ وَأَعْمَالِ الرِّيَاسَةِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ آيَةً بَيِّنَةً وَعِبْرَةً نَافِعَةً لِمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَآيَاتِهِ الَّتِي تُؤَيِّدُ بِهَا أَنْبِيَاءَهُ وَرُسُلَهُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ; لِذَلِكَ قَيَّدَهَا بِالشَّرْطِ الَّذِي حُذِفَ جَوَابُهُ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ.
عُلِمَ مِنَ السِّيَاقِ أَنَّ الْغَرَضَ الْأَوَّلَ مِنْ طَلَبِ الْقَوْمِ نَصْبَ الْمَلِكِ عَلَيْهِمْ أَنْ يَتَوَلَّى قِيَادَتَهُمْ لِلْقِتَالِ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَيَثْأَرَ مِنْ أُولَئِكَ الْوَثَنِيِّينَ الَّذِينَ أَخْرَجُوهُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَبْنَائِهِمْ، فَكَانَ الْمُتَوَقَّعُ بَعْدَ بَيَانِ نَصْبِ الْمَلِكِ أَنْ يَذْكُرَ مَا كَانَ مِنْ شَأْنِهِ فِي الْقِتَالِ وَذَلِكَ مَا بَيَّنَهُ تَعَالَى،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute