للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ [٤٢: ١٣ - ١٥] إِلَخْ.

فَهَذِهِ الْآيَاتُ وَأَمْثَالُهَا نُصُوصٌ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ دِينَ اللهِ - تَعَالَى - الَّذِي شَرَعَهُ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ يُنَافِي الِاخْتِلَافَ وَالتَّفَرُّقَ، وَأَنَّ اللهَ وَرَسُولَهُ بَرِيءٌ مِنَ الْمُخْتَلِفِينَ، وَقَدْ أَرْشَدَنَا إِلَى الْمَخْرَجِ مِمَّا فُطِرَ عَلَيْهِ النَّاسُ مِنَ الِاخْتِلَافِ فِي الْفَهْمِ وَالتَّنَازُعِ فِي الْأَمْرِ إِذْ قَالَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا [٤: ٥٩] .

فَإِطَاعَةُ اللهِ هِيَ الْأَخْذُ بِكِتَابِهِ كُلِّهِ، وَفِيهِ مَا رَأَيْتَ مِنَ النَّهْيِ عَنِ الِاخْتِلَافِ وَالتَّفَرُّقِ فِي الدِّينِ. وَإِطَاعَةُ رَسُولِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ هِيَ الْأَخْذُ بِسُنَّتِهِ، وَإِطَاعَةُ أُولِي الْأَمْرِ

هِيَ الْعَمَلُ بِمَا يَتَّفِقُ أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ وَأُولُو الشَّأْنِ مِنْ عُلَمَائِنَا وَرُؤَسَائِنَا بَعْدَ الْمُشَاوَرَةِ بَيْنَهُمْ فِي أَمْرٍ اجْتِهَادِيٍّ، عَلَى أَنَّهُ هُوَ الْأَصْلَحُ لَنَا الَّذِي يَسْتَقِيمُ بِهِ أَمْرُنَا، فَإِنْ وَقَعَ التَّنَازُعُ وَالِاخْتِلَافُ وَجَبَ رَدُّهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ، وَتَحْكِيمُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فِيهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَمَادَى الْمُسْلِمُونَ عَلَى التَّفَرُّقِ وَالِاخْتِلَافِ بِحَالٍ.

هَذَا حُكْمُ اللهِ الَّذِي أَبْطَلَهُ التَّقْلِيدُ بِمَا جَعَلَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَبَيْنَ الْكِتَابِ وَالسَّنَةِ وَاجْتِمَاعِ رَأْيِ أُولِي الْأَمْرِ وَالشَّأْنِ مِنَ الْحُجُبِ حَتَّى صَارَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ شِيَعًا فِي أَمْرِ الدِّينِ، هَذَا خَارِجِيٌّ وَهَذَا شِيعِيٌّ، وَهَذَا كَذَا وَهَذَا كَذَا، وَشِيَعًا فِي أَمْرِ الدُّنْيَا، هَذَا يَتَّبِعُ سُلْطَانَهُ وَيُحَارِبُ لِأَجْلِ هَوَاهُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ، وَهَذَا يَتَّبِعُ سُلْطَانًا يَعْصِي فِي طَاعَتِهِ نُصُوصَ الدِّينِ، وَقَدْ أَفْضَى الْخِلَافُ إِلَى غَايَةٍ هِيَ شَرُّ الْغَايَاتِ، وَخَاتِمَةٍ هِيَ سُوأَى الْخَوَاتِمِ ; وَهِيَ السُّكُوتُ لِكُلِّ مُبْتَدِعٍ عَلَى بِدْعَتِهِ، وَالرِّضَا مَنْ كُلِّ مُقَلِّدٍ بِجَهَالَتِهِ، وَاتِّفَاقُ سَوَادِ الشِّيَعِ كُلِّهَا عَلَى الْإِنْكَارِ وَالتَّشْنِيعِ عَلَى مَنْ يَدْعُو إِلَى كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بَلْ إِنَّكَ لَتَجِدُ فِي حَمَلَةِ الْعَمَائِمِ، وَسَكَنَةِ الْأَثْوَابِ الْعَبَاعِبِ مَنْ لَا يُنْكِرُ عَلَى التِّلْمِيذِ الْمُبْتَدِئِ أَنْ يَقْرَأَ الْكُتُبَ وَالصُّحُفَ الَّتِي تَطْعَنُ كَبِدَ الدِّينِ، وَتُحَاوِلُ هَدْمَ بِنَائِهِ الْمَتِينِ، وَيُنْكِرُ أَشَدَّ الْإِنْكَارِ عَلَيْهِ قِرَاءَةَ كِتَابٍ أَوْ صَحِيفَةٍ تَدْعُوهُ إِلَى كِتَابِ رَبِّهِ وَهَدْيِ نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَيَعُدُّ هَذَا الْإِنْكَارَ غَيْرَةً عَلَى الدِّينِ وَخِدْمَةً لَهُ! ! فَأَيُّ بُعْدٍ عَنْهُ أَشَدُّ مِنْ هَذَا الْبُعْدِ، وَأَيُّ أَثَرٍ لِلتَّقْلِيدِ شَرٌّ مِنْ هَذَا الْأَثَرِ؟

أَمَّا الِاقْتِتَالُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ بِسَبَبِ الِاخْتِلَافِ: فَأَوَّلُهُ مَا كَانَ بَيْنَ عَلِيٍّ وَمُعَاوِيَةَ، وَكَانَتْ فِئَةُ الثَّانِي هِيَ الْبَاغِيَةُ، وَاللهُ يَقُولُ فِيمَنْ سَبَقَهُمْ: وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ [٤٢: ١٤]

<<  <  ج: ص:  >  >>