للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

لَوْ وُجِدَ هَؤُلَاءِ فِي بِلَادٍ إِسْلَامِيَّةٍ لَتَيَسَّرَ لَهُ إِخْرَاجُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ ظُلْمَةِ الْخِلَافِ وَإِنْجَائِهِمْ مِنْ شُرُورِهِ، أَمَّا فِي الْأُمُورِ الْقَضَائِيَّةِ وَالْإِدَارِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ فَبِإِقَامَتِهَا عَلَى

الْقَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ فِي حِفْظِ الْمَصَالِحِ وَدَرْءِ الْمَفَاسِدِ بِحَسَبِ حَالِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ، وَأَمَّا فِي الْأُمُورِ الِاعْتِقَادِيَّةِ وَالتَّعَبُّدِيَّةِ فَبِإِرْجَاعِهِمْ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ الصَّالِحُ بِلَا زِيَادَةٍ وَلَا نَقْصٍ، وَاعْتِبَارُ مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ فِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ هُوَ الدِّينُ الَّذِي يُدْعَى إِلَيْهِ، وَيُحْمَلُ كُلُّ مُسْلِمٍ عَلَيْهِ. وَمَا عَدَاهُ مِنَ الْمَسَائِلِ الِاجْتِهَادِيَّةِ مِمَّا يَعْمَلُ فِيهِ صَاحِبُ الدَّلِيلِ بِمَا يَظْهَرُ لَهُ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعَادِيَ أَوْ يُمَارِيَ فِيهِ مَنْ لَمْ يَظْهَرْ لَهُ دَلِيلُهُ مِنْ إِخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ الْمُوَافِقِينَ لَهُ فِي مَسَائِلِ الْإِجْمَاعِ، وَأَمَّا الْعَامِّيُّ الَّذِي لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ فَلَا يُذْكَرُ لَهُ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِ الْخِلَافِ، فَإِنْ عَرَضَ لَهُ أَمْرٌ اسْتَفْتَى فِيهِ مَنْ يَثِقُ بِوَرَعِهِ وَعِلْمِهِ مِنْ عُلَمَاءِ عَصْرِهِ، وَذَلِكَ الْعَالِمُ يُبَيِّنُ لَهُ حُكْمَ اللهِ فِيهِ بِأَنْ يَذْكُرَ لَهُ مَا عِنْدَهُ فِيهِ مِنْ آيَةٍ كَرِيمَةٍ أَوْ سُنَّةٍ قَوِيمَةٍ، وَيُبَيِّنُ لَهُ الْمَعْنَى بِالِاخْتِصَارِ. هَكَذَا كَانَ عُلَمَاءُ الصَّحَابَةِ وَالسَّلَفِ وَعَامَّتُهُمْ، وَأَنَّى لِلْمُسْلِمِينَ الْيَوْمَ أَنْ يَسْتَقِيمُوا عَلَى طَرِيقَتِهِمْ وَهُمْ فَاقِدُو أُولِي الْأَمْرِ الَّذِينَ تُفَوِّضُ الْأُمَّةُ إِلَيْهِمْ أُمُورَهَا الْعَامَّةَ وَتَجْعَلُهُمْ مُسَيْطِرِينَ عَلَى حُكَّامِهَا وَأَحْكَامِهَا؟

قَدِ اهْتَدَى الْإِمَامُ الْغَزَالِيُّ فِي آخِرِ عُمْرِهِ إِلَى مَضَارِّ الِاخْتِلَافِ فِي الْمُسْلِمِينَ وَإِلَى أَنَّهُ لَا نَجَاةَ لَهُمْ مِنْهُ إِلَّا بِحُكْمِ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَالْعَمَلِ بِمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ السَّلَفُ عَلَى مَقْرُبَةٍ مِمَّا قُلْنَا، فَقَدْ ذَكَرَ فِي كِتَابِهِ " الْقِسْطَاسُ الْمُسْتَقِيمُ " مُنَاظَرَةً دَارَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَحَدِ الْبَاطِنِيَّةِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّهُ لَا بُدَّ فِي كُلِّ زَمَنٍ مِنْ إِمَامٍ مَعْصُومٍ يُرْجَعُ إِلَيْهِ وَيُطَاعُ طَاعَةً عَمْيَاءَ، وَإِنَّنَا نُورِدُ بَعْضَ كَلَامِهِ فِي ذَلِكَ قَالَ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - بَعْدَ كَلَامٍ فِي الِاخْتِلَافِ:

فَقَالَ - أَيْ مُنَاظِرُهُ الْبَاطِنِيُّ -: كَيْفَ نَجَاةُ الْخَلْقِ مِنْ هَذِهِ الِاخْتِلَافَاتِ؟ قُلْتُ: إِنْ أَصْغَوْا إِلَيَّ رَفَعْتُ الِاخْتِلَافَ بَيْنَهُمْ بِكِتَابِ اللهِ - تَعَالَى -، وَلَكِنْ لَا حِيلَةَ فِي إِصْغَائِهِمْ فَإِنَّهُمْ لَمْ يُصْغُوا بِأَجْمَعِهِمْ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ وَلَا إِلَى إِمَامِكَ فَكَيْفَ يُصْغُونَ إِلَيَّ؟ وَكَيْفَ يَجْتَمِعُونَ عَلَى الْإِصْغَاءِ وَقَدْ حُكِمَ عَلَيْهِمْ فِي الْأَزَلِ بِأَنَّهُمْ لَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ

رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ، وَكَوْنُ الْخِلَافِ بَيْنَهُمْ ضَرُورِيًّا تَعْرِفُهُ مِنْ كِتَابِ: " جَوَابُ مُفَصَّلِ الْخِلَافِ وَهُوَ الْفُصُولُ الِاثْنَا عَشَرَ ".

" فَقَالَ: فَلَوْ أَصْغَوْا إِلَيْكَ كَيْفَ كُنْتَ تَفْعَلُ؟ قُلْتُ: كُنْتُ أُعَامِلُهُمْ بِآيَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ كِتَابِ اللهِ - تَعَالَى - وَأَنْزَلَنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ [٥٧: ٢٥]

<<  <  ج: ص:  >  >>