يَوْمُ الْجَزَاءِ الَّذِي لَا تَجِدُونَ فِيهِ مَا تَتَقَرَّبُونَ بِهِ إِلَيْهِ مِمَّا يُكْسَبُ بِبَيْعٍ وَتِجَارَةٍ، وَلَا مِمَّا يُنَالُ بِخُلَّةٍ أَوْ شَفَاعَةٍ، فَإِنَّهُ هُوَ الْيَوْمُ الَّذِي يَظْهَرُ فِيهِ فَقْرُ الْعِبَادِ وَكَوْنُ الْمُلْكِ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ.
وَأَمَّا الطَّرِيقُ الثَّانِي: فَقَدْ فَسَّرُوا فِيهِ الْبَيْعَ بِالِافْتِدَاءِ وَجَعَلُوا فِيهِ الْخُلَّةَ وَالشَّفَاعَةَ عَلَى
ظَاهِرِهِمَا، أَيْ أَنْفِقُوا فَإِنَّ الْإِنْفَاقَ فِي سَبِيلِ الْخَيْرِ وَالْبِرِّ - وَهِيَ سَبِيلُ اللهِ - هُوَ الَّذِي يُنْجِيكُمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ الَّذِي لَا يُنْجِي الْأَشِحَّةَ الْبَاخِلِينَ فِيهِ مِنْ عَذَابِ اللهِ - تَعَالَى - فِدَاءٌ فَيَفْتَدُوا مِنْهُ أَنْفُسَهُمْ، وَلَا خُلَّةٌ يَحْمِلُ فِيهَا خَلِيلٌ شَيْئًا مِنْ أَوْزَارِ خَلِيلِهِ، أَوْ يَهَبُهُ شَيْئًا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَلَا شَفَاعَةٌ يُؤْثِرُ بِهَا الشَّفِيعُ فِي إِرَادَةِ اللهِ - تَعَالَى -، فَيُحَوِّلُهَا عَنْ مُجَازَاةِ الْكَافِرِ بِالنِّعْمَةِ الْبَاخِلِ بِالصَّدَقَةِ الْمُسْتَحِقِّ لِلْمَقْتِ وَالْعُقُوبَةِ بِتَدْنِيسِ نَفْسِهِ وَتَدْسِيَتِهَا فِي الدُّنْيَا، وَهَذَا هُوَ الْوَجْهُ الَّذِي اخْتَارَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ، فَالْآيَةُ بِمَعْنَى قَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ السُّورَةِ: وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ [٢: ٤٨] فَقَوْلُهُ: لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا بِمَعْنَى نَفْيِ الْخُلَّةِ هُنَا، وَالْعَدْلُ: هُوَ الْفِدَاءُ بِالْعِوَضِ، وَهُوَ بِمَعْنَى الْبَيْعِ الْمَنْفِيِّ هُنَا، وَمِثْلُهَا آيَةُ (١٢٣) ، وَالْخِطَابُ فِي تَيْنَكَ الْآيَتَيْنِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ كَانُوا فِي عَصْرِ التَّنْزِيلِ يَقِيسُونَ أُمُورَ الدُّنْيَا عَلَى أُمُورِ الْآخِرَةِ كَمَا هُوَ شَأْنُ الْوَثَنِيِّينَ، فَيَظُنُّونَ أَنَّ الْإِنْسَانَ يُمْكِنُ أَنْ يَنْجُوَ فِي الْآخِرَةِ بِفِدَاءٍ يَفْتَدِي بِهِ أَوْ شَفَاعَةٍ تَنَالُهُ مِنْ سَلَفِهِ النَّبِيِّينَ وَالرَّبَّانِيِّينَ، كَدَأْبِ الْأُمَرَاءِ، وَالسَّلَاطِينِ، وَإِنْ كَانَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ فَاسِقًا ظَالِمًا فَاسِدَ الْأَخْلَاقِ مَنَّاعًا لِلْخَيْرِ مُعْتَدِيًا أَثِيمًا. وَقُصَارَى هَذَا الِاعْتِقَادِ أَنَّ سَعَادَةَ الْآخِرَةِ هِيَ كَالْمَعْرُوفِ لِلْعَامَّةِ مِنْ سَعَادَةِ الدُّنْيَا لَيْسَتْ جَزَاءً لِلْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَالْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ وَالْعَقَائِدِ الصَّحِيحَةِ، أَيْ لَيْسَتْ أَثَرًا لِشَيْءٍ فِي نَفْسِ الْإِنْسَانِ، إِنَّمَا الْغَالِبُ فِيهَا أَنْ تَكُونَ بِإِسْعَادِ غَيْرِهِ لَهُ، وَخَيْرُ ضُرُوبِ هَذَا الْإِسْعَادِ وَأَعْلَاهَا مَا يَكُونُ بِالشَّفَاعَةِ عِنْدَ الْأُمَرَاءِ وَالسَّلَاطِينِ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ الْمَرْءَ مِنْ أَعْظَمِ أَرْبَابِ الْمَالِ وَالْجَاهِ بِكَلِمَةٍ يَحْمِلُهُمْ عَلَيْهَا الشَّافِعُ، فَمَنْ كَانَ يَطْلُبُ فِي الْآخِرَةِ مُنْتَهَى السَّعَادَةِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَعْتَمِدَ عَلَى أَحَدِ الْمُقَرَّبِينَ عِنْدَ اللهِ لِيَشْفَعَ لَهُ هُنَاكَ وَلَا يُكَلِّفَنَّ نَفْسَهُ عَنَاءَ التَّهْذِيبِ وَأَعْمَالِ الْبِرِّ، وَقَدْ بَيَّنَ اللهُ - تَعَالَى - لِبَنِي إِسْرَائِيلَ خَطَأَهُمْ فِي هَذَا الِاعْتِقَادِ بِمَا فِيهِ عِبْرَةٌ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ، ثُمَّ خَاطَبَ الْمُؤْمِنِينَ بِذَلِكَ وَأَنْذَرَهُمْ مَا أَنْذَرَ بِهِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ يُحَرِّفُونَ الْكَلَامَ عَنْ مَوَاضِعِهِ، كَمَا فَعَلَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكَافِرِينَ بِأَصْلِ الدِّينِ هُمُ الَّذِينَ لَا يَنْفَعُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَيْعٌ وَلَا خَلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ ; أَيْ هَذَا النَّفْيُ الْعَامُّ الْمُسْتَغْرِقُ لِمَنْفَعَةِ الْفِدَاءِ، وَالْخُلَّةُ
وَالشَّفَاعَةُ خَاصٌّ بِمَنْ لَا يُسَمِّي نَفْسَهُ مُسْلِمًا، وَأَمَّا مَنْ قَبِلَ هَذَا الِاسْمَ فَإِنَّ الْآيَةَ لَا تَتَنَاوَلُهُمْ، وَإِنْ كَانَ الْخِطَابُ فِيهَا لِلَّذِينِ آمَنُوا، وَسَتَعْلَمُ أَنَّ لَفْظَ الْكَافِرِينَ لَا يُرَادُ بِهِ هُنَا مُنْكِرُو الْأُلُوهِيَّةِ وَالنُّبُوَّةِ أَوْ رَافِضُو لَقَبِ الْإِسْلَامِ ; لِأَنَّ هَذَا اصْطِلَاحٌ لَمْ يَلْتَزِمْهُ الْقُرْآنُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute