فَطَلَبَ مِنَّا أَنْ نَدْعُوَهُ بِأَلَّا تَكُونَ عُقُوبَتُنَا عَلَى ذَلِكَ كَعُقُوبَةِ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ الَّذِينَ نَزَلَتْ بِهِمْ أَلْوَانٌ مِنَ الْعَذَابِ وَدَمَّرَتْهُمْ تَدْمِيرًا حَتَّى هَلَكُوا هَلَاكًا حِسِّيًّا. فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَحَدٌ أَوْ هَلَاكًا مَعْنَوِيًّا بِأَنْ
ضَاعَتْ أَوْ تَضَعْضَعَتْ شَرِيعَتُهُمْ وَنَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ حَتَّى عَادُوا إِلَى الْوَثَنِيَّةِ وَالْهَمَجِيَّةِ.
رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ مِنَ الْعُقُوبَةِ أَوْ مِنَ الْبَلَايَا وَالْفِتَنِ وَالْمِحَنِ. وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الشَّرَائِعُ وَالْأَحْكَامُ، وَجَعَلُوهُ دَلِيلًا عَلَى جَوَازِ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ - كَمَا تَقَدَّمَ - فَهُوَ عِنْدَهُمْ بِمَعْنَى مَا قَبْلَهُ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: مَسْأَلَةُ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ مِنَ الْكَلَامِ الَّذِي نَعُوذُ بِاللهِ مِنْهُ وَالْخِلَافُ فِيهَا لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَثَرٌ مَا فِي الشَّرِيعَةِ، وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ: هَلْ يَجُوزُ عَلَى اللهِ عَقْلًا أَنْ يُكَلِّفَ النَّاسَ مَا لَا يُطِيقُونَ أَمْ لَا؟ وَالْمُتَقَدِّمُونَ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَقَعْ. وَمَا لَا يُطَاقُ هُوَ مَا لَا يَدْخُلُ فِي مَكِنَةِ الْإِنْسَانِ وَطَوْقِهِ، وَمَا يُطَاقُ: هُوَ مَا يُمْكِنُ أَنْ يَأْتِيَهُ وَلَوْ مَعَ الْمَشَقَّةِ، وَقَدْ جَعَلُوا مَا لَا يُطَاقُ بِمَعْنَى الْمُتَعَذِّرِ الَّذِي يَعْلُو الْقُدْرَةَ كَالَّذِي يَسْتَحِيلُ فِعْلُهُ عَقْلًا أَوْ عَادَةً، وَالْوَاجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَفْهَمَ الْقُرْآنَ بِلُغَتِهِ الَّتِي أُنْزِلَ بِهَا، لَا بِعُرْفِ أَفْلَاطُونَ وَفَلْسَفَةِ أَرِسْطُو، وَقَدْ رَأَيْنَا الْعَرَبَ تُعَبِّرُ مِمَّا يُطَاقُ عَمَّا فِيهِ مَشَقَّةٌ شَدِيدَةٌ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
وَلَيْسَ يَبِينُ فَضْلُ الْمَرْءِ إِلَّا ... إِذَا كَلَّفْتَهُ مَا لَا يُطِيقُ
أَقُولُ: يُرِيدُ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - أَنَّنَا إِذَا فَسَّرْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ بِالْأَحْكَامِ وَالتَّكَالِيفِ كَانَ مَعْنَاهُ مَا فِيهِ مَشَقَّةٌ شَدِيدَةٌ، وَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ إِلَّا إِذَا فَسَّرْنَا الْإِصْرَ بِالْعُقُوبَةِ تَفَادِيًا مِنَ التَّكْرَارِ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُفَسَّرَ الْإِصْرُ: بِالتَّكَالِيفِ الشَّاقَّةِ، وَمَا لَا طَاقَةَ بِهِ: بِالْعُقُوبَةِ عَلَى التَّقْصِيرِ فِيهَا، وَهُوَ يَتَضَمَّنُ الدُّعَاءَ بِنَفْيِ سَبَبِ الْعُقُوبَةِ فَيَكُونُ الْمَعْنَى: رَبَّنَا لَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا مَا يَشُقُّ عَلَيْنَا مِنَ الْأَحْكَامِ، بَلْ حَمِّلْنَا الْيَسِيرَ الَّذِي يَسْهُلُ عَلَيْنَا حَمْلُهُ، رَبَّنَا وَوَفِّقْنَا لِحَمْلِ مَا حَمَّلْتَنَا وَالنُّهُوضِ بِهِ كَمَا تُحِبُّ وَتَرْضَى، لِكَيْلَا نَسْتَحِقَّ بِمُقْتَضَى سُنَّتِكَ أَنْ تُحَمِّلَنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ مِنْ عُقُوبَةِ الْمُفَرِّطِينَ فِي دَيْنِهِمْ، الْمُسْرِفِينَ فِي أَهْوَائِهِمْ. وَاعْفُ عَنَّا بِمَحْوِ أَثَرِ مَا عَسَانَا نُلِمُّ بِهِ مِنْ أَنْفُسِنَا وَعَدَمِ الْعُقُوبَةِ عَلَيْهِ وَاغْفِرْ لَنَا، أَيْ لَا تَفْضَحْنَا بِإِظْهَارِهِ بِذَاتِهِ وَلَا بِالْمُؤَاخَذَةِ عَلَيْهِ وَارْحَمْنَا فِي كُلِّ حَالٍ بِمَا تُوَفِّقُنَا لَهُ مِنْ إِقَامَةِ دِينِكَ وَالسَّيْرِ عَلَى سُنَنِكَ الَّتِي جَعَلْتَهَا بِحِكْمَتِكَ طُرُقًا لِلسَّعَادَةِ.
أَنْتَ مَوْلَانَا الَّذِي مَنَحْتَنَا أَنْوَاعَ الْهِدَايَةِ، وَأَيَّدْتَنَا بِالتَّوْفِيقِ وَالْعِنَايَةِ، فَلَا نَعْبُدُ إِلَّا إِيَّاكَ، وَلَا نَسْتَعِينُ بِسِوَاكَ فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ الَّذِينَ
اتَّخَذُوا مِنْ دُونِكَ أَوْلِيَاءَ، وَجَهِلُوا سُنَنَكَ فِي أَنْفُسِهِمْ وَفِي سَائِرِ الْأَشْيَاءِ، فَأَعْرَضُوا عَمَّا مَدَدْتَ لَهُمْ مِنَ الْأَسْبَابِ، وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ وَمَنْ دُونَهُمْ مِنَ الْأَرْبَابِ، وَالَّذِينَ حَجَبَتْهُمْ سُنَنُكَ الْكَوْنِيَّةُ، عَنِ الْإِيمَانِ بِالْأُلُوهِيَّةِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute