مِنَ النَّصَارَى بِفَقْدِ تَوْرَاةِ مُوسَى الَّتِي هِيَ أَصْلُ دِينِهِمْ وَأَسَاسُهُ. قَالَ صَاحِبُ كِتَابِ (خُلَاصَةِ الْأَدِلَّةِ السَّنِيَّةِ عَلَى صِدْقِ أُصُولِ الدِّيَانَةِ الْمَسِيحِيَّةِ) : " وَالْأَمْرُ مُسْتَحِيلٌ أَنْ تَبْقَى نُسْخَةُ مُوسَى الْأَصْلِيَّةُ فِي الْوُجُودِ إِلَى الْآنِ وَلَا نَعْلَمُ مَاذَا كَانَ مِنْ أَمْرِهَا وَالْمُرَجَّحُ أَنَّهَا فُقِدَتْ مَعَ التَّابُوتِ لَمَّا خَرَّبَ بُخْتُنَصَّرُ الْهَيْكَلَ. وَرُبَّمَا كَانَ ذَلِكَ سَبَبَ حَدِيثٍ كَانَ جَارِيًا بَيْنَ الْيَهُودِ عَلَى أَنَّ الْكُتُبَ الْمُقَدَّسَةَ فُقِدَتْ وَأَنَّ عِزْرَا الْكَاتِبَ الَّذِي كَانَ نَبِيًّا جَمَعَ النُّسَخَ الْمُتَفَرِّقَةَ مِنَ الْكُتُبِ الْمُقَدَّسَةِ وَأَصْلَحَ غَلَطَهَا وَبِذَلِكَ عَادَتْ إِلَى مَنْزِلَتِهَا الْأَصْلِيَّةِ " انْتَهَى بِحُرُوفِهِ.
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يُجِيبُونَ مَنْ يَسْأَلُ: مَنْ أَيْنَ جَمَعَ عِزْرَا تِلْكَ الْكُتُبَ بَعْدَ فَقْدِهَا وَإِنَّمَا يُجْمَعُ الْمَوْجُودُ، وَعَلَى أَيِّ شَيْءٍ اعْتَمَدَ فِي إِصْلَاحِ غَلَطِهَا؟ قَائِلِينَ: إِنَّهُ كَتَبَ مَا كَتَبَ بِالْإِلْهَامِ فَكَانَ صَوَابًا، وَلَكِنَّ هَذَا الْإِلْهَامَ مِمَّا لَا سَبِيلَ إِلَى إِقَامَةِ الْبُرْهَانِ عَلَيْهِ
وَلَا هُوَ مِمَّا يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى جَمْعِ مَا فِي أَيْدِي النَّاسِ الَّذِينَ لَا ثِقَةَ بِنَقْلِهِمْ. وَلَوْ كَتَبَ عِزْرَا بِالْإِلْهَامِ الصَّحِيحِ لَكَتَبَ شَرِيعَةَ مُوسَى مُجَرَّدَةً مِنَ الْأَخْبَارِ التَّارِيخِيَّةِ، وَمِنْهَا ذِكْرُ كِتَابَتِهِ لَهَا وَوَضْعُهَا فِي جَانِبِ التَّابُوتِ وَذِكْرُ مَوْتِهِ وَعَدَمُ مَجِيءِ مِثْلِهِ، وَقَدْ بَيَّنَ بَعْضُ عُلَمَاءِ أُورُبَّا أَنَّ أَسْفَارَ التَّوْرَاةِ كُتِبَتْ بِأَسَالِيبَ مُخْتَلِفَةٍ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ كِتَابَةَ وَاحِدٍ، وَلَيْسَ مِنْ غَرَضِنَا أَنْ نُطِيلَ فِي ذَلِكَ وَإِنَّمَا نَقُولُ: إِنَّ التَّوْرَاةَ الَّتِي يَشْهَدُ لَهَا الْقُرْآنُ هِيَ مَا أَوْحَاهُ اللهُ إِلَى مُوسَى لِيُبَلِّغَهُ قَوْمَهُ بِالْقَوْلِ وَالْكِتَابِ، وَأَمَّا التَّوْرَاةُ الَّتِي عِنْدَ الْقَوْمِ فَهِيَ كُتُبٌ تَارِيخِيَّةٌ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ تِلْكَ الشَّرِيعَةِ الْمُنَزَّلَةِ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ يَقُولُ فِي الْيَهُودِ: إِنَّهُمْ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ، كَمَا يَقُولُ: إِنَّهُمْ نَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ، وَلِأَنَّهُ يَسْتَحِيلُ أَنْ تُنْسَى تِلْكَ الْأُمَّةُ بَعْدَ فَقْدِ كِتَابِ شَرِيعَتِهَا جَمِيعَ أَحْكَامِهَا. فَمَا كَتَبَهُ عِزْرَا وَغَيْرُهُ مُشْتَمِلٌ عَلَى مَا حُفِظَ مِنْهَا إِلَى عَهْدِهِ وَعَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأَخْبَارِ. وَهَذَا كَافٍ لِلِاحْتِجَاجِ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِإِقَامَةِ التَّوْرَاةِ وَلِلشَّهَادَةِ بِأَنَّ فِيهَا حُكْمَ اللهِ كَمَا فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ ; وَبِهَذَا يُجْمَعُ بَيْنَ الْآيَاتِ الْوَارِدَةِ فِي التَّوْرَاةِ وَبَيْنَ الْمَعْقُولِ وَالْمَعْرُوفِ فِي تَارِيخِ الْقَوْمِ.
أَمَّا لَفْظُ " الْإِنْجِيلِ " فَهُوَ يُونَانِيُّ الْأَصْلِ، وَمَعْنَاهُ الْبِشَارَةُ، قِيلَ: وَالتَّعْلِيمُ الْجَدِيدُ وَهُوَ يُطْلَقُ عِنْدَ النَّصَارَى عَلَى أَرْبَعَةِ كُتُبٍ تُعْرَفُ بِالْأَنَاجِيلِ الْأَرْبَعَةِ، وَعَلَى مَا يُسَمُّونَهُ الْعَهْدَ الْجَدِيدَ وَهُوَ هَذِهِ الْكُتُبُ الْأَرْبَعَةُ مَعَ كِتَابِ أَعْمَالِ الرُّسُلِ (أَيِ الْحَوَارِيِّينَ) وَرَسَائِلُ بُولِسَ وَبُطْرُسَ وَيُوحَنَّا وَيَعْقُوبَ وَرُؤْيَا يُوحَنَّا، أَيْ عَلَى الْمَجْمُوعِ فَلَا يُطْلَقُ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا عَدَا الْكُتُبِ الْأَرْبَعَةِ بِالِانْفِرَادِ، وَالْأَنَاجِيلُ الْأَرْبَعَةُ عِبَارَةٌ عَنْ كُتُبٍ وَجِيزَةٍ فِي سِيرَةِ الْمَسِيحِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَشَيْءٍ مِنْ تَارِيخِهِ وَتَعْلِيمِهِ، وَلِهَذَا سُمِّيَتْ أَنَاجِيلَ وَلَيْسَ لِهَذِهِ الْكُتُبِ سَنَدٌ مُتَّصِلٌ عِنْدَ أَهْلِهَا، وَهُمْ مُخْتَلِفُونَ فِي تَارِيخِ كِتَابَتِهَا عَلَى أَقْوَالٍ كَثِيرَةٍ، فَفِي السَّنَةِ الَّتِي كُتِبَ فِيهَا الْإِنْجِيلُ الْأَوَّلُ تِسْعَةُ أَقْوَالٍ وَفِي كُلٍّ وَاحِدٍ مِنَ الثَّلَاثَةِ عِدَّةُ أَقْوَالٍ أَيْضًا ; عَلَى أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّهَا كُتِبَتْ فِي النِّصْفِ الثَّانِي مِنَ الْقَرْنِ الْأَوَّلِ لِلْمَسِيحِ، لَكِنَّ أَحَدَ الْأَقْوَالِ فِي الْإِنْجِيلِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ كُتِبَ سَنَةَ ٣٧ وَمِنْهَا أَنَّهُ كُتِبَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute