للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

السَّبَبِ الْأَقْوَى مِنْ دَعْوَةِ الْعَوَامِّ إِلَى الْمُتَشَابِهِ أَوَّلًا! ! ! وَهَاكَ أَيُّهَا الْقَارِئُ مَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي بَيَانِ أَجْوِبَةِ الْعُلَمَاءِ وَهِيَ عِنْدُهُ ثَلَاثَةٌ:

(١) إِنَّ اللهَ أَنْزَلَ الْمُتَشَابِهَ لِيَمْتَحِنَ قُلُوبَنَا فِي التَّصْدِيقِ بِهِ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ كُلُّ مَا وَرَدَ فِي الْكِتَابِ مَعْقُولًا وَاضِحًا لَا شُبْهَةَ فِيهِ عِنْدَ أَحَدٍ مِنَ الْأَذْكِيَاءِ وَلَا مِنَ الْبُلَدَاءِ لَمَا كَانَ فِي الْإِيمَانِ شَيْءٌ مِنْ مَعْنَى الْخُضُوعِ لِأَمْرِ اللهِ - تَعَالَى - وَالتَّسْلِيمِ لِرُسُلِهِ.

(٢) جَعَلَ اللهُ الْمُتَشَابِهَ فِي الْقُرْآنِ حَافِزًا لِعَقْلِ الْمُؤْمِنِ إِلَى النَّظَرِ كَيْلَا يَضْعُفَ فَيَمُوتَ فَإِنَّ السَّهْلَ الْجَلِيَّ جِدًّا لَا عَمَلَ لِلْعَقْلِ فِيهِ، وَالدِّينُ أَعَزُّ شَيْءٍ عَلَى الْإِنْسَانِ، فَإِذَا لَمْ يَجِدْ فِيهِ مَجَالًا لِلْبَحْثِ يَمُوتُ فِيهِ، وَإِذَا مَاتَ فِيهِ لَا يَكُونُ حَيًّا بِغَيْرِهِ، فَالْعَقْلُ شَيْءٌ وَاحِدٌ إِذَا قَوِيَ فِي شَيْءٍ قَوِيَ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَإِذَا ضَعُفَ ضَعُفَ فِي كُلِّ شَيْءٍ وَلِذَلِكَ قَالَ: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ وَلَمْ يَقُلْ: وَالرَّاسِخُونَ فِي الدِّينِ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ أَعَمُّ وَأَشْمَلُ، فَمِنْ رَحْمَتِهِ - تَعَالَى - أَنْ جَعَلَ فِي الدِّينِ مَجَالًا لِبَحْثِ الْعَقْلِ بِمَا أَوْدَعَ فِيهِ مِنَ الْمُتَشَابِهِ، فَهُوَ يَبْحَثُ أَوَّلًا فِي تَمْيِيزِ الْمُتَشَابِهِ مِنْ غَيْرِهِ وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ الْبَحْثَ فِي الْأَدِلَّةِ الْكَوْنِيَّةِ وَالْبَرَاهِينِ الْعَقْلِيَّةِ وَطُرُقِ الْخِطَابِ وَوُجُوهِ الدَّلَالَةِ لِيَصِلَ إِلَى فَهْمِهِ وَيَهْتَدِيَ إِلَى تَأْوِيلِهِ. وَهَذَا الْوَجْهُ لَا يَأْتِي إِلَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ عَطَفَ وَالرَّاسِخُونَ عَلَى لَفْظِ الْجَلَالَةِ، وَلْيَكُنْ كَذَلِكَ.

(٣) إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ بُعِثُوا إِلَى جَمِيعِ الْأَصْنَافِ مِنْ عَامَّةِ النَّاسِ وَخَاصَّتِهِمْ سَوَاءٌ كَانَتْ بَعْثَتُهُمْ لِأَقْوَامِهِمْ خَاصَّةً كَالْأَنْبِيَاءِ السَّالِفِينَ - عَلَيْهِمُ السَّلَامُ - أَوْ لِجَمِيعِ الْبَشَرِ كَنَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَإِذَا كَانَتِ الدَّعْوَةُ إِلَى الدِّينِ مُوَجَّهَةً إِلَى الْعَالِمِ وَالْجَاهِلِ وَالذَّكِيِّ وَالْبَلِيدِ وَالْمَرْأَةِ وَالْخَادِمِ، وَكَانَ مِنَ الْمَعَانِي مَا لَا يُمْكِنُ التَّعْبِيرُ عَنْهُ بِعِبَارَةٍ تَكْشِفُ عَنْ حَقِيقَتِهِ وَتَشْرَحُ كُنْهَهُ بِحَيْثُ يَفْهَمُهُ كُلُّ مُخَاطِبٍ عَامِّيًّا كَانَ أَوْ خَاصِّيًّا، أَلَّا يَكُونَ فِي ذَلِكَ مِنَ الْمَعَانِي الْعَالِيَةِ وَالْحِكَمِ الدَّقِيقَةِ مَا يَفْهَمُهُ الْخَاصَّةُ وَلَوْ بِطَرِيقِ الْكِنَايَةِ

وَالتَّعْرِيضِ وَيُؤْمَرُ الْعَامَّةُ بِتَفْوِيضِ الْأَمْرِ فِيهِ إِلَى اللهِ - تَعَالَى -، وَالْوُقُوفِ عِنْدَ حَدِّ الْمُحْكَمِ، فَيَكُونُ لِكُلٍّ نَصِيبُهُ عَلَى قَدْرِ اسْتِعْدَادِهِ. مِثَالُ ذَلِكَ: إِطْلَاقُ لَفْظِ كَلِمَةِ اللهِ وَرُوحٍ مِنَ اللهِ عَلَى عِيسَى، فَالْخَاصَّةُ يَفْهَمُونَ مِنْ هَذَا مَا لَا يَفْهَمُهُ الْعَامَّةُ ; وَلِذَلِكَ فُتِنَ النَّصَارَى بِمِثْلِ هَذَا التَّعْبِيرِ إِذْ لَمْ يَقِفُوا عِنْدَ حَدِّ الْمُحْكَمِ وَهُوَ التَّنْزِيهُ وَاسْتِحَالَةُ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ جِنْسٌ أَوْ أُمٌّ أَوْ وَلَدٌ، وَالْمُحْكَمُ عِنْدَنَا فِي هَذَا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ [٣: ٥٩] وَسَيَأْتِي فِي هَذِهِ السُّورَةِ. وَأَقُولُ: وَعِنْدَهُمْ مِثْلُ قَوْلِ الْمَسِيحِ فِي إِنْجِيلِ يُوحَنَّا " [ (١٧: ٣) ] وَهَذِهِ هِيَ الْحَيَاةُ الْأَبَدِيَّةُ أَنْ يَعْرِفُوكَ أَنْتَ الْإِلَهُ الْحَقِيقِيُّ وَحْدَكَ وَيَسُوعَ الْمَسِيحَ الَّذِي أَرْسَلْتَهُ ".

(قَالَ) : وَمِنَ الْمُتَشَابِهِ مَا يَحْتَمِلُ مَعَانِيَ مُتَعَدِّدَةً وَيَنْطَبِقُ عَلَى حَالَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ لَوْ أُخِذَ مِنْهَا أَيُّ مَعْنًى وَحُمِلَ عَلَى أَيَّةِ حَالَةٍ لَصَحَّ، وَيُوجَدُ هَذَا النَّوْعُ فِي كَلَامِ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ وَهُوَ عَلَى

<<  <  ج: ص:  >  >>