للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

صِفَةً زَائِدَةً. وَالسَّلَفُ الْأَثَرِيُّونَ يَقُولُونَ: لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ صِفَاتِ اللهِ - تَعَالَى - الَّذِي أَثْبَتَهَا لِنَفْسِهِ فِي كِتَابِهِ وَعَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ. وَإِنَّمَا هَذَا خِلَافٌ فِي التَّنْزِيهِ وَفِي كَوْنِ كُلِّ مَا جَاءَ عَنِ اللهِ فِي ذَلِكَ حَقٌّ، وَلَوْلَا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ انْقَسَمُوا إِلَى مَذَاهِبَ عَنَى أَهْلُ كُلِّ مَذْهَبٍ مِنْهَا بِإِثْبَاتِ مَذْهَبِهِمْ وَتَأْيِيدِهِ وَإِبْطَالِ مُخَالِفِهِ وَتَفْنِيدِهِ لَزَالَ هَذَا الْخِلَافُ وَعَرَفَ الْأَكْثَرُونَ الْحَقَّ صُورَةً وَمَعْنًى حَتَّى لَا يُشَنِّعَ أَشْعَرِيٌّ عَلَى حَنْبَلِيٍّ وَلَا أَثَرِيٌّ عَلَى نَظَرِيٍّ ; وَلِذَلِكَ تَرَى مُحَقِّقِي الْمُتَكَلِّمِينَ رَجَعُوا فِي آخِرِ عَهْدِهِمْ إِلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ. وَبِذَلِكَ صَرَّحَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ فِي (الْإِبَانَةِ) وَأَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ فِي (إِلْجَامِ الْعَوَامِّ عَنْ عِلْمِ الْكَلَامِ) وَغَيْرِهِ مِنْ كُتُبِهِ الَّتِي أَلَّفَهَا فِي آخِرِ حَيَاتِهِ.

هَذَا وَلَا نُنْكِرُ أَنَّ الْأَثَرِيِّينَ مِنَ الْحَنَابِلَةِ وَغَيْرِهِمْ قَدْ وَقَعَ لِبَعْضِهِمْ مَا يَكَادُ يَكُونُ نَصًّا فِي التَّجْسِيمِ، أَوْ جَعَلَ كُلَّ مَا وَرَدَ فِي صِفَاتِ اللهِ وَأَفْعَالِهِ صِفَاتٍ لَا تُفْهَمُ وَإِنَّمَا تُؤْخَذُ بِالتَّسْلِيمِ، وَإِنَّمَا الْعِبْرَةُ بِمَا كَتَبَهُ عُلَمَاؤُهُمُ الْمُحَقِّقُونَ كَابْنِ تَيْمِيَةَ وَابْنِ الْقَيِّمِ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ تَيْمِيَةَ: إِنَّ خَطَأَ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي نَفْيِ الصِّفَاتِ أَكْثَرُ وَخَطَأَ الْأَثَرِيِّينَ فِي الْإِثْبَاتِ أَكْثَرُ. أَقُولُ: وَمِنْ عَجِيبِ صُنْعِ بَعْضِهِمْ أَنَّهُمْ ذَكَرُوا السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْكَلَامَ وَعَدُّوهَا مِنَ الصِّفَاتِ الَّتِي عَلَيْهَا مَدَارُ الْإِيمَانِ بِالْأُلُوهِيَّةِ عَلَى أَنَّهُمْ سَمَّوْهَا صِفَاتٍ سَمْعِيَّةً، وَلَمْ يَذْكُرُوا الْحِكْمَةَ وَالرَّحْمَةَ وَالْمَحَبَّةَ مَعَ أَنَّ السَّمْعَ وَرَدَ بِهَا وَالدَّلَائِلُ الْعَقْلِيَّةُ عَلَيْهَا أَظْهَرُ، إِذِ الْعَقْلُ يُجِيزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ صِفَةَ الْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ مُحِيطَةٌ بِالْمَسْمُوعَاتِ وَالْمُبْصِرَاتِ، وَبِذَلِكَ يُسَمَّى سَمِيعًا بَصِيرًا، وَلَا حَاجَةَ إِلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ صِفَتَانِ زَائِدَتَانِ مِنْ صِفَاتِ الْأُلُوهِيَّةِ، وَلَا يَظْهَرُ مِثْلُ هَذَا الْقَوْلِ فِي إِدْرَاجِ الْحِكْمَةِ وَالرَّحْمَةِ وَالْمَحَبَّةِ وَنَحْوِهَا فِي صِفَتَيِ الْإِرَادَةِ وَالْقُدْرَةِ.

وَإِنَّنِي أَنْقُلُ فِي هَذَا الْمَقَامِ جُمْلَةً مِنْ كَلَامِ أَهْلِ الْأَثَرِ وَتَابِعِي السَّلَفِ فِي مَعْنَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ عَدَمِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ صِفَاتِ اللهِ - تَعَالَى - لِيَعْلَمَ الْجَامِدُونَ عَلَى مَا فِي كُتُبِ الْكَلَامِ وَالتَّفْسِيرِ الَّتِي أَلَّفَهَا الْأَشَاعِرَةُ أَنَّهُمْ كَتَبُوا بِعَقْلٍ، وَهُمْ أَجْوَدُ النَّاسِ فَهْمًا لِلنَّقْلِ، جَاءَ فِي شَرْحِ عَقِيدَةِ السَّفَارِينِيِّ الْحَنْبَلِيِّ فِي هَذَا الْمَبْحَثِ مَا نَصُّهُ:

" قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ فِي التَّدْمُرِيَّةِ: الْقَوْلُ فِي بَعْضِ الصِّفَاتِ كَالْقَوْلِ فِي بَعْضٍ، فَإِنْ كَانَ الْمُخَاطَبُ مِمَّنْ يُقِرُّ بِأَنَّ اللهَ - تَعَالَى - حَيٌّ بِحَيَاةٍ عَلِيمٌ بِعِلْمٍ قَدِيرٌ بِقُدْرَةٍ سَمِيعٌ بِسَمْعٍ بَصِيرٌ بِبَصَرٍ مُتَكَلِّمٌ بِكَلَامٍ مُرِيدٌ بِإِرَادَةٍ، وَيَجْعَلُ ذَلِكَ كُلَّهُ حَقِيقَةً وَيُنَازِعُ

فِي مَحَبَّتِهِ - تَعَالَى - وَرِضَاهُ وَغَضَبِهِ وَكَرَاهَتِهِ فَيَجْعَلُ ذَلِكَ مَجَازًا وَيُفَسِّرُهُ إِمَّا بِالْإِرَادَةِ وَإِمَّا بِبَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ مِنَ النِّعَمِ وَالْعُقُوبَاتِ، قِيلَ لَهُ: لَا فَرْقَ بَيْنَ مَا نَفَيْتَهُ وَبَيْنَ مَا أَثْبَتَّهُ، بَلِ الْقَوْلُ فِي أَحَدِهِمَا كَالْقَوْلِ فِي الْآخَرِ. فَإِنْ قُلْتَ: إِنَّ إِرَادَتَهُ مِثْلُ إِرَادَةِ الْمَخْلُوقِينَ فَكَذَلِكَ مَحَبَّتُهُ وَرِضَاهُ وَغَضَبُهُ، وَهَذَا هُوَ التَّمْثِيلُ. وَإِنْ قُلْتَ: لَهُ

<<  <  ج: ص:  >  >>