للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

(وَالثَّانِي) أَنْ يَعْلَمَ قَطْعًا جَوَازَهُ لَكِنْ تَرَدَّدَ فِي أَنَّهُ هَلْ هُوَ مُرَادٌ أَمْ لَا (مِثَالُ الْأَوَّلِ) تَأْوِيلُ لَفْظِ الْفَوْقِ بِالْعُلُوِّ الْمَعْنَوِيِّ الَّذِي هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِنَا السُّلْطَانُ فَوْقَ الْوَزِيرِ، فَإِنَّا لَا نَشُكُّ فِي ثُبُوتِ مَعْنَاهُ لِلَّهِ - تَعَالَى -، لَكِنَّا رُبَّمَا نَتَرَدَّدُ فِي أَنَّ لَفْظَ الْفَوْقِ فِي قَوْلِهِ: يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ [١٦: ٥٠] هَلْ أُرِيدَ بِهِ الْعُلُوُّ الْمَعْنَوِيُّ أَمْ أُرِيدَ بِهِ مَعْنًى آخَرَ يَلِيقُ بِجَلَالِ اللهِ - تَعَالَى - دُونَ الْعُلُوِّ بِالْمَكَانِ الَّذِي هُوَ مُحَالٌ عَلَى مَا لَيْسَ بِجِسْمٍ وَلَا هُوَ صِفَةٌ فِي جِسْمٍ (وَمِثَالُ الثَّانِي) تَأْوِيلُ لَفْظِ الِاسْتِوَاءِ عَلَى الْعَرْشِ بِأَنَّهُ أَرَادَ بِهِ النِّسْبَةَ الْخَاصَّةَ الَّتِي لِلْعَرْشِ، وَنِسْبَتُهُ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - يَتَصَرَّفُ فِي جَمِيعِ الْعَالَمِ وَيُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ بِوَاسِطَةِ الْعَرْشِ فَإِنَّهُ لَا يُحْدِثُ فِي الْعَالَمِ صُورَةً مَا لَمْ يُحْدِثْهُ فِي الْعَرْشِ، كَمَا لَا يُحْدِثُ النَّقَّاشُ وَالْكَاتِبُ صُورَةً وَكَلِمَةً عَلَى الْبَيَاضِ مَا لَمْ يُحْدِثْهُ فِي الدِّمَاغِ، بَلْ لَا يُحْدِثُ الْبَنَّاءُ صُورَةَ الْأَبْنِيَةِ مَا لَمْ يُحْدِثْ صُورَتَهَا فِي الدِّمَاغِ ; فَبِوَاسِطَةِ الدِّمَاغِ يُدَبِّرُ الْقَلْبُ أَمْرَ عَالَمِهِ الَّذِي هُوَ بَدَنُهُ فَرُبَّمَا نَتَرَدَّدُ فِي أَنَّ إِثْبَاتَ هَذِهِ النِّسْبَةِ لِلْعَرْشِ إِلَيْهِ - تَعَالَى - هَلْ هُوَ جَائِزٌ إِمَّا لِوُجُوبِهِ فِي نَفْسِهِ، أَوْ لِأَنَّهُ أَجْرَى بِهِ سُنَّتَهُ وَعَادَتَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ خِلَافُهُ مُحَالًا كَمَا أَجْرَى عَادَتَهُ فِي حَقِّ قَلْبِ الْإِنْسَانِ بِأَلَّا يُمْكِنُهُ التَّدْبِيرُ إِلَّا بِوَاسِطَةِ الدِّمَاغِ، وَإِنْ كَانَ فِي قُدْرَةِ اللهِ - تَعَالَى - تَمْكِينُهُ مِنْهُ

دُونَ الدِّمَاغِ لَوْ سَبَقَتْ بِهِ إِرَادَتُهُ الْأَزَلِيَّةُ، وَحَقَّتْ بِهِ الْكَلِمَةُ الْقَدِيمَةُ الَّتِي هِيَ عِلْمُهُ، فَصَارَ خِلَافُهُ مُمْتَنِعًا لَا الْقُصُورُ فِي ذَاتِ الْقُدْرَةِ لَكِنْ لِاسْتِحَالَةِ مَا يُخَالِفُ الْإِرَادَةَ الْقَدِيمَةَ وَالْعِلْمَ السَّابِقَ الْأَزَلِيَّ ; وَلِذَلِكَ قَالَ: وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا [٣٣: ٦٢] وَإِنَّمَا لَا تَتَبَدَّلُ لِوُجُوبِهَا وَإِنَّمَا وُجُوبُهَا لِصُدُورِهَا عَنْ إِرَادَةٍ أَزَلِيَّةٍ وَاجِبَةٍ، وَنَتِيجَةُ الْوَاجِبِ وَاجِبَةٌ وَنَقِيضُهَا مُحَالٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحَالًا فِي ذَاتِهِ وَلَكِنَّهُ مُحَالٌ لِغَيْرِهِ وَهُوَ إِفْضَاؤُهُ إِلَى أَنْ يَنْقَلِبَ الْعِلْمُ الْأَزَلِيُّ جَهْلًا، وَيَمْتَنِعَ نُفُوذُ الْمَشِيئَةِ الْأَزَلِيَّةِ، فَإِذَنْ إِثْبَاتُ هَذِهِ النِّسْبَةِ لِلَّهِ - تَعَالَى - مَعَ الْعَرْشِ فِي تَدْبِيرِ الْمَمْلَكَةِ بِوَاسِطَتِهِ إِنْ كَانَ جَائِزًا عَقْلًا فَهَلْ هُوَ وَاقِعٌ وُجُودًا؟ هَذَا مِمَّا قَدْ يَتَرَدَّدُ فِيهِ النَّاظِرُ، وَرُبَّمَا يُظَنُّ وُجُودُ هَذَا مِثَالُ الظَّنِّ فِي نَفْسِ الْمَعْنَى وَالْأَوَّلُ مِثَالُ الظَّنِّ فِي كَوْنِ الْمَعْنَى مُرَادًا بِاللَّفْظِ، مَعَ كَوْنِ الْمَعْنَى فِي نَفْسِهِ صَحِيحًا جَائِزًا وَبَيْنَهُمَا فَرْقَانِ، لَكِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الظَّنَّيْنِ إِذَا انْقَدَحَ فِي النَّفْسِ وَحَاكَ فِي الصَّدْرِ فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ الِاخْتِيَارِ دَفْعُهُ عَنِ النَّفْسِ وَلَا يُمْكِنُهُ أَلَّا يَظُنَّ ; فَإِنَّ لِلظَّنِّ أَسْبَابًا ضَرُورِيَّةً لَا يُمْكِنُ دَفْعُهَا وَلَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَكِنْ عَلَيْهِ وَظِيفَتَانِ:

(إِحْدَاهُمَا) أَلَّا يَدَعَ نَفْسَهُ تَطْمَئِنُّ إِلَيْهِ جَزْمًا مِنْ غَيْرِ شُعُورٍ بِإِمْكَانِ الْغَلَطِ فِيهِ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَحْكُمَ مَعَ نَفْسِهِ بِمُوجِبِ ظَنِّهِ حُكْمًا جَازِمًا.

(وَالثَّانِيَةُ) : أَنَّهُ إِنْ ذَكَرَهُ لَمْ يُطْلَقِ الْقَوْلُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالِاسْتِوَاءِ كَذَا أَوِ الْمُرَادَ بِالْفَوْقِ كَذَا لِأَنَّهُ حَكَمَ بِمَا لَا يَعْلَمُ وَقَدْ قَالَ اللهُ - تَعَالَى -: وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [١٧: ٣٦] لَكِنْ يَقُولُ: أَنَا أَظُنُّ أَنَّهُ كَذَا فَيَكُونَ صَادِقًا فِي خَبَرِهِ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ ضَمِيرِهِ وَلَا يَكُونُ حُكْمًا عَلَى صِفَةِ اللهِ وَلَا عَلَى مُرَادِهِ بِكَلَامِهِ، بَلْ حُكْمًا عَلَى نَفْسِهِ وَنَبَأً عَنْ ضَمِيرِهِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>