للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الْأَنْبِيَاءِ وَالْكُفَّارِ وَالْمَوَاعِظِ

وَالْأَمْثَالِ وَمَا لَا يَعْظُمُ خَطَرُ الْخَطَأِ فِيهِ (وَأَمَّا الثَّالِثُ) فَقَدْ قَالَ قَائِلُونَ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْتَمَدَ فِي هَذَا الْبَابِ إِلَّا مَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ أَوْ تَوَاتَرَ عَنِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَوَاتُرًا يُفِيدُ الْعِلْمَ، فَأَمَّا أَخْبَارُ الْآحَادِ فَلَا يُقْبَلُ فِيهِ وَلَا نَشْتَغِلُ بِتَأْوِيلِهِ عِنْدَ مَنْ يَمِيلُ إِلَى التَّأْوِيلِ وَلَا بِرِوَايَتِهِ عِنْدَ مَنْ يَقْتَصِرُ عَلَى الرِّوَايَةِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ حُكْمٌ بِالْمَظْنُونِ وَاعْتِمَادٌ عَلَيْهِ، وَمَا ذَكَرُوهُ لَيْسَ بِبَعِيدٍ، لَكِنَّهُ مُخَالِفٌ لِظَاهِرِ مَا دَرَجَ عَلَيْهِ السَّلَفُ، فَإِنَّهُمْ قَبِلُوا هَذِهِ الْأَخْبَارَ مِنَ الْعُدُولِ وَرَوَوْهَا وَصَحَّحُوهَا. فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ:

(أَحَدُهُمَا) أَنَّ التَّابِعِينَ كَانُوا قَدْ عَرَفُوا مِنْ أَدِلَّةِ الشَّرْعِ أَنْ لَا يَجُوزَ اتِّهَامُ الْعَدْلِ بِالْكَذِبِ لَا سِيَّمَا فِي صِفَاتِ اللهِ - تَعَالَى -، فَإِذَا رَوَى الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - خَبَرًا وَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ كَذَا، فَرَدُّ رِوَايَتِهِ تَكْذِيبٌ لَهُ وَنِسْبَةٌ لَهُ إِلَى الْوَضْعِ أَوْ إِلَى السَّهْوِ، فَقَبِلُوهُ وَقَالُوا: قَالَ أَبُو بَكْرٍ قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَقَالَ أَنَسٌ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَكَذَا فِي التَّابِعِينَ، فَالْآنَ إِذَا ثَبَتَ عِنْدَهُمْ بِأَدِلَّةِ الشَّرْعِ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى اتِّهَامِ الْعَدْلِ الْتَّقِيِّ مِنَ الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ - فَمِنْ أَيْنَ يَجِبُ أَلَّا يَتَّهِمَ ظُنُونَ الْآحَادِ، وَأَنْ يُنْزِلَ الظَّنَّ مَنْزِلَةَ نَقْلِ الْعَدْلِ مَعَ أَنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ؟ فَإِذَا قَالَ الشَّارِعُ: مَا أَخْبَرَكُمْ بِهِ الْعَدْلُ فَصَدِّقُوهُ وَاقْبَلُوهُ وَانْقُلُوهُ وَأَظْهِرُوهُ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ هَذَا أَنْ يُقَالَ: مَا حَدَّثَتْكُمْ بِهِ نُفُوسُكُمْ مِنْ ظُنُونِكُمْ فَاقْبَلُوهُ وَأَظْهِرُوهُ، وَارْوُوا عَنْ ظُنُونِكُمْ وَضَمَائِرِكُمْ وَنُفُوسِكُمْ مَا قَالَتْهُ، فَلَيْسَ هَذَا فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ ; وَلِهَذَا نَقُولُ: مَا رَوَاهُ غَيْرُ الْعَدْلِ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ يَنْبَغِي أَنْ يُعْرَضَ عَنْهُ وَلَا يُرْوَى، وَيُحْتَاطَ فِي الْمَوَاعِظِ وَالْأَمْثَالِ وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهَا.

(وَالْجَوَابُ الثَّانِي) أَنَّ تِلْكَ الْأَخْبَارَ رَوَتْهَا الصَّحَابَةُ لِأَنَّهُمْ سَمِعُوهَا يَقِينًا، فَمَا نَقَلُوا إِلَّا مَا تَيَقَّنُوهُ، وَالتَّابِعُونَ قَبِلُوهُ وَرَوَوْهُ، وَمَا قَالُوا: قَالَ رَسُولُ اللهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَذَا، بَلْ قَالُوا: قَالَ فُلَانٌ قَالَ رَسُولَ اللهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَذَا وَكَانُوا صَادِقِينَ، وَمَا أَهْمَلُوا رِوَايَتَهُ لِاشْتِمَالِ كُلِّ حَدِيثٍ عَلَى فَوَائِدَ سِوَى اللَّفْظِ الْمُوهِمِ عِنْدَ الْعَارِفِ مَعْنًى حَقِيقِيًّا يَفْهَمُهُ مِنْهُ لَيْسَ ذَلِكَ ظَنِّيًّا فِي حَقِّهِ: مِثَالُهُ رِوَايَةُ الصَّحَابِيِّ عَنْ رَسُولِ اللهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَوْلُهُ: يَنْزِلُ اللهُ - تَعَالَى - كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيَقُولُ: هَلْ مِنْ دَاعٍ فَأَسْتَجِيبُ لَهُ؟ هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ فَأَغْفِرُ لَهُ؟ الْحَدِيثَ فَهَذَا الْحَدِيثُ سِيقَ لِنِهَايَةِ التَّرْغِيبِ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ،

وَلَهُ تَأْثِيرٌ عَظِيمٌ فِي تَحْرِيكِ الدَّوَاعِي لِلتَّهَجُّدِ الَّذِي هُوَ أَفْضَلُ الْعِبَادَاتِ، فَلَوْ تُرِكَ هَذَا الْحَدِيثُ لَبَطَلَتْ هَذِهِ الْفَائِدَةُ الْعَظِيمَةُ وَلَا سَبِيلَ إِلَى إِهْمَالِهَا، وَلَيْسَ فِيهِ إِلَّا إِبْهَامُ لَفْظِ النُّزُولِ عِنْدَ الصَّبِيِّ وَالْعَامِّيِّ الْجَارِي مَجْرَى الصَّبِيِّ، وَمَا أَهْوَنَ عَلَى الْبَصِيرِ أَنْ يَغْرِسَ فِي قَلْبِ الْعَامِّيِّ التَّنْزِيهَ وَالتَّقْدِيسَ عَنْ صُورَةِ النُّزُولِ بِأَنْ يَقُولَ لَهُ: إِنْ كَانَ نُزُولُهُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا لِيُسْمِعَنَا نِدَاءَهُ وَقَوْلَهُ فَمَا أَسْمَعَنَا، فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي نُزُولِهِ؟ وَلَقَدْ كَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يُنَادِيَنَا كَذَلِكَ وَهُوَ عَلَى الْعَرْشِ أَوْ عَلَى السَّمَاءِ الْعُلْيَا، فَهَذَا الْقَدْرُ يَعْرِفُ

<<  <  ج: ص:  >  >>