أَنَّ هُنَاكَ قُوَّةً فَوْقَ جَمِيعِ الْقُوَى قَدْ تُؤَيِّدُ الْفِئَةَ الْقَلِيلَةَ فَتَغْلِبُ الْكَثِيرَةَ بِإِذْنِ اللهِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ مَا يُمْكِنُ أَنْ نَفْهَمَ بِهِ سُنَّتَهُ - تَعَالَى - فِي مِثْلِ هَذَا التَّأْيِيدِ ; لِأَنَّ الْقُرْآنَ يُفَسِّرُ بَعْضُهُ بَعْضًا وَيَجِبُ أَخْذُهُ بِجُمْلَتِهِ، بَلْ هَذِهِ الْآيَةُ نَفْسُهَا تَهْدِي إِلَى السِّرِّ فِي هَذَا النَّصْرِ، فَإِنَّهُ قَالَ: فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَتَى كَانَ الْقِتَالُ فِي سَبِيلِ اللهِ - أَيْ سَبِيلِ حِمَايَةِ الْحَقِّ وَالدِّفَاعِ عَنِ الدِّينِ وَأَهْلِهِ - فَإِنَّ النَّفْسَ تَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ بِكُلِّ مَا فِيهَا مِنْ قُوَّةٍ وَشُعُورٍ وَوِجْدَانٍ، وَمَا يُمْكِنُهَا مِنْ تَدْبِيرٍ وَاسْتِعْدَادٍ مَعَ الثِّقَةِ بِأَنَّ وَرَاءَ قُوَّتِهَا مَعُونَةَ اللهِ وَتَأْيِيدَهُ، وَمِمَّا يُوَضِّحُ ذَلِكَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَاللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ [٨: ٤٥ - ٤٧] أَقُولُ وَهَذَا مِمَّا نَزَلَ فِي وَاقِعَةِ بَدْرٍ الَّتِي قِيلَ إِنَّ الْآيَةَ الَّتِي نُفَسِّرُهَا نَزَلَتْ فِيهَا وَإِنْ كَانَ عَامًّا فِي حُكْمِهِ مُطْلَقًا فِي عِبَارَتِهِ أَمَرَ اللهُ - تَعَالَى - الْمُؤْمِنِينَ بِالثَّبَاتِ وَبِكَثْرَةِ ذِكْرِهِ الَّذِي يَشُدُّ عَزَائِمَهُمْ وَيُنْهِضُ هِمَمَهُمْ، وَبِالطَّاعَةِ لَهُ - تَعَالَى - وَلِرَسُولِهِ، وَكَانَ هُوَ الْقَائِدُ فِي تِلْكَ الْوَاقِعَةِ - وَطَاعَةُ الْقَائِدِ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الظَّفَرِ - وَنَهَاهُمْ عَنِ التَّنَازُعِ وَأَنْذَرَهُمْ عَاقِبَتَهُ وَهِيَ الْفَشَلُ وَذَهَابُ الْقُوَّةِ، وَحَذَّرَهُمْ أَنْ يَكُونُوا كَأُولَئِكَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ ; إِذْ خَرَجُوا لِقِتَالِ الْمُسْلِمِينَ لِعِلَّةِ الْبَطَرِ وَالطُّغْيَانِ وَمُرَاءَاةِ النَّاسِ بِقُوَّتِهِمْ وَعِزِّهِمْ، وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ، فَبِهَذِهِ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي تُعْرَفُ سُنَّةُ اللهِ فِي نَصْرِ الْفِئَةِ الْقَلِيلَةِ عَلَى الْكَثِيرَةِ. وَقَالَ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ السُّورَةِ أَيْضًا: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ [٨: ٦٠] .
أَوْرَدَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ الْآيَةَ الْأُولَى مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا آنِفًا وَهَذِهِ الْآيَةَ فَقَطْ ثُمَّ قَالَ: وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ قَدِ امْتَثَلُوا أَمْرَ اللهِ - تَعَالَى - فِي كُلِّ مَا أَوْصَاهُمْ بِهِ بِقَدْرِ طَاقَتِهِمْ فَاجْتَمَعَ لَهُمْ الِاسْتِعْدَادُ وَالِاعْتِقَادُ، فَكَانَ الْمُؤْمِنُ يُقَاتِلُ ثَابِتًا وَاثِقًا وَالْكَافِرُ مُتَزَلْزِلًا مَائِقًا وَنَصَرُوا اللهَ فَنَصَرَهُمْ وَفَاءً بِوَعْدِهِ فِي قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [٤٧: ٧] وَقَوْلِهِ: وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [٣٠: ٤٧] فَالْمُؤْمِنُ مَنْ يَشْهَدُ لَهُ بِإِيمَانِهِ الْقُرْآنُ وَإِيتَاؤُهُ مَا وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ، لَا مَنْ يَدَّعِي الْإِيمَانَ بِلِسَانِهِ وَأَخْلَاقُهُ وَأَعْمَالُهُ وَحِرْمَانُهُ مِمَّا وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ تُكَذِّبُ دَعْوَاهُ. وَغَزَوَاتُ الرَّسُولِ وَأَصْحَابُهُ شَارِحَةٌ لِمَا وَرَدَ مِنَ الْآيَاتِ فِي ذَلِكَ، وَنَاهِيكَ بِغَزْوَةِ أُحُدٍ، فَإِنَّهُمْ لَمَّا خَالَفُوا مَا أُمِرُوا بِهِ نَزَلَ بِهِمْ مَا نَزَلْ، وَهَذَا أَكْبَرُ عِبْرَةً لِمَنْ بَعْدَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْتَبِرُونَ بِالْقُرْآنِ، وَلَكِنَّهُمْ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا اخْتَارُوا لِأَنْفُسِهِمْ، وَلَوْ عَادُوا إِلَيْهِ وَاتَّحَدُوا فِيهِ وَاعْتَصَمُوا بِحَبْلِهِ لَفَازُوا بِالْعِزِّ الدَّائِمِ وَالسَّعَادَةِ الْكُبْرَى وَالسِّيَادَةِ الْعُلْيَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute